يتفهم المرء إقدام السيد حيدر العبادي على اتخاذ خطوات أو قرارات استثنائية في الظروف التي يمر بها العراق منذ حزيران 2014، اذ البلد يعيش "حالة حرب" تفرض استثنائيتها على مجمل أنشطة الحكومة العراقية، داخلياً وخارجياً. ولكن ما دعا اليه السيد العبادي في القمة الأخيرة لقادة الدول الصناعية السبع (G7) المنعقدة في برلين كان "استثنائياً" حتى الحرج، بما لا ينسجم ومجاراة حالة الحرب التي تهيمن على الراهن العراقي، وهذا الحرج يفرض بدوره سؤالاً هاماً؛ هل تعي الحكومة العراقية انها تقود بلداً يمر في نفق "حالة الحرب"؟!
لقد أطلق العبادي في الاجتماع المذكور دعوة (أشبه باستغاثة) للاستثمار الأجنبي في العراق، مستدلاً في دعوته بأن أغلب المحافظات العراقية بعيدة عن نيران حروب داعش والارهاب، حيث قال: "..لكن العراق الذي يواجه تحديات كبيرة، يجب أن لا ينظر اليه بأنه ساحة حرب فقط، فنحن من بلد يزيد سكانه على 35 مليوناً، ولدينا إمكانات بشرية واقتصادية وثروات طبيعية هائلة.. والعدد الأكبر من محافظات العراق مستقر وآمن وصالح لمشاريع البناء والإعمار والاستثمار، وان جهود دعم اقتصاده وتشجيع فرص التنمية فيه، يسهم في استقراره بشكل يخدم جميع العراقيين ويشجع على عودة الحياة الى طبيعتها في المناطق التي تشهد مواجهات أمنية"!
لا ينطلق المتابع للأوضاع - بالضرورة - من نظرة تشاؤمية، بقدر ما هو احتكام عقلاني الى الواقعية، حينما يتم التقليل من شأن توجيه دعوة الى الدول الصناعية الكبرى أو المؤسسات النقدية الدولية للاستثمار في العراق، في ظل أجواء الحرب المحتدمة التي يعيشها البلد! اذ الكل يسلّم بحقيقة لا غبار عليها، تفضي الى ان الاستثمار الأجنبي في دول مبتلية بحروب ضروس يعتبر نوعاً من الجنون يندر أن يقدم عليه أحد، كما لا تقترب رؤوس الأموال الأجنبية من هذه المغامرة الخطيرة، حتى تلك التي وراءها أجندات سياسية للدول التي تنتمي لها أو تتشابك مع مصالحها! وبالطبع فإن المستثمر الأجنبي غير معني بجهود دعم الاقتصاد العراقي أو تشجيع فرص التنمية والمساهمة في استقرار العراق "بشكل يخدم جميع العراقيين ويشجع على عودة الحياة الى طبيعتها في المناطق التي تشهد مواجهات أمنية"، مثلما يأمل السيد العبادي في الدعوة التي أطلقها مؤخراً! والملاحظ ان ذات الدعوة قد حملت تناقضاً واضحاً، ففي شق منها يشير العبادي الى الاستقرار الذي تنعم به أغلب المحافظات العراقية، الى جنب "إمكانات بشرية واقتصادية وثروات طبيعية هائلة"، وفي شق آخر يتطلع بأن تسهم تلك الاستثمارات في ترسيخ استقرار البلاد "بشكل يخدم جميع العراقيين ويشجع على عودة الحياة الى طبيعتها في المناطق التي تشهد مواجهات أمنية"! وهنا يتلقى المُخاطب (المستثمر الأجنبي) الدعوة وكأنه معني بالمجازفة برؤوس أمواله من أجل "إعادة الحياة الى طبيعتها في المناطق التي تشهد مواجهات أمنية"! لا أدري أي منطق إقناع هذا يمكن بواسطته استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، حتى وان كانت الدول الغربية والصناعية التي على تماس مباشر مع ملف الحرب على الإرهاب هي المعنية بدعوة الاستثمار التي نحن بصددها؟! اذ هذه الدول لها حسابات معقدة كثيرة، متداخلة مع أجنداتها الداخلية والخارجية، فيما يخص تحريك رؤوس أموالها خارج حدودها، ولكن الأبرز في الأمر هو ان تحقيق الأرباح مقدم على أي توظيف سياسي لها، وان كان هذا التوظيف - مثلا - يستدعي "القضاء على الإرهاب"، وإعادة الأمن والاستقرار الى العراق أو أي بلدٍ آخر! في حين ان الأمر مختلف مع رؤوس الأموال الأجنبية التي لا تخضع لإرادات سياسية بعينها، فهي تقدس الأرباح وتقدمها على أي عامل آخر مهما أصطبغ لدى الآخرين بأهمية قصوى!
ان الاستثمار الأجنبي في أي دولة يحتاج الى توافر مناخ ملائم من الاستقرار السياسي والأمني، والى أنظمة وقوانين لا تخضع للتغيرات والتقلبات وفق أمزجة من يديرون العملية السياسية، كما يتطلع المستثمرون الأجانب الى أنظمة لا يعصفها الفساد الإداري، الذي يُعتبر قوة طاردة (وبشدة) لأي استثمار أجنبي حقيقي، والى جنب ذلك ينبغي أن تتوافر الدول المستهدفة بالاستثمار على جملة من العوامل الحيوية والمؤثرة، منها وجود بنى تحتية مؤهلة تستجيب للمعايير الدولية، وتتمثل بعض مرتكزات تلك البنى بالطاقة الكهربائية، والاتصالات والنقل بأنواعه بمرافقه الحيوية المؤهلة، مع الوقود والخدمات المالية والمصرفية السلسة. كما ينبغي أن يرافق ذلك إعفاءات ضريبية مشجعة، وضمور في البيروقراطية، وتوافر بيانات إحصائية (مالية واقتصادية وتجارية) تلعب دوراً حيوياً في رسم خطط المستثمرين، مشمولة ايضاً بإحصائيات "المسح النقدي" بغية توضيح السياسة النقدية وتحديد سعر الفائدة، إضافة الى تبيان معدلات التضخم (التي ينبغي أن تكون منخفضة). ويتوقع المستثمرون وجود خارطة استثمارية للعراق تراعي في بياناتها المعايير الدولية، وضرورة وجود قوانين منظمة للاستثمار الأجنبي، لا تحتوي على ثغرات تغذي الفساد المالي والإداري!
لا مراء بأن الكثير من العوامل - سلف ذكرها - المنشودة لخلق أرضية تستقطب الاستثمار الأجنبي في العراق غير مكتملة وتلازمها الكثير من الثغرات، أو ليست مؤهلة أساساً لتلبية متطلبات تلك العملية، مثلما هو الحال في معضلة الطاقة الكهربائية، أو الارتقاء بالخدمات المصرفية الى معايير دولية مقبولة على أقل تقدير! ولا شك بأن ضعف تلك العوامل قد أثر سلباً أيضاً - وعلى الدوام - على الاستثمار الوطني متمثلاً بالقطاع الخاص، حيث عانى العراق منذ التغيير عام 2003 نزيفاً ملموساً من هجرة رؤوس أموال القطاع الخاص خارج البلاد، وتفضيلها بعض دول المنطقة أو دول الغرب لإقامة مشاريعها وممارسة أنشطتها التجارية، مما حرم العراق من فرص حقيقية في دفع عجلة التنمية، التي هو أحوج ما يكون اليها في ظل مصاعب اقتصادية (لا مجال لذكر أسبابها هنا). وفي هذا الصدد يذكر د. أحمد إبريهي (نائب سابق لمحافظ البنك المركزي) في مقال نشره أوائل هذا العام: ".. لحد الآن بقي حجم الاستثمار الأجنبي محدوداً خارج النفط، ولم يتجاوز نطاق العقارات التجارية والخدمية بحجوم صغيرة نسبة إلى الاقتصاد العراقي. وذات الأسباب التي تفسر ضآلة النشاط الاستثماري لقطاع الأعمال الخاص العراقي هي مسؤولة عن إحجام الاستثمار الأجنبي"!
لن يُعتبر تحاملاً على الحقائق القول بأن العديد من الدول التي طالبها السيد العبادي في قمة "G7" الأخيرة في الاستثمار في العراق هي من مهّدت بشكلٍ أو بآخر لاستفحال الإرهاب التكفيري في المنطقة لتكريس أجنداتها الخاصة، فكيف يُعقل أن ترفد بمليارات الدولارات ما يُقوّم اقتصاد العراق المتصدع بفعل حروب الارهاب، أو "تشجع فرص التنمية في البلاد بما يسهم في استقرار الأوضاع ويشجع على عودة الحياة الى طبيعتها" كما قصد العبادي في دعوته لتلك الدول؟!
باختصار، ان إطلاق دعوات للاستثمار الأجنبي في العراق الذي يخوض حرباً شرسة ضد الارهاب ويعيش "حالة حرب" هو ضرب من اللاواقعية، وتنم بدورها عن لاواقعية المنهج السياسي الذي تدير الحكومة به ملفات البلاد وسط أمواج متلاطمة من التحديات القائمة. ويجدر القول بأن الدول الغربية المعنية في دعوات الاستثمار اختارت بأن تستثمر على طريقتها هنا في منطقتنا وفي أجواء الحرب، وذلك بتصعيد سباق التسلح، مما يفضي الى انتعاش قطاع صناعة الأسلحة الذي يضخها بالأموال الطائلة المضمونة (بالمقارنة مع مخاطر الاستثمار الأخرى)، ويحل لها معضلة الركود الاقتصادي الذي تعاني منه منذ سنوات، وتخدم في ذات الوقت استراتيجياتها في المنطقة، ومنها استنزاف أموال الشعوب ومقدراتها، بغية الإمعان في تبعيتها. وأما "انعدام الأمن" في منطقتنا، وما يرافق ذلك من احتراق العراق وسوريا، فيبدو انه لا يحظى (من دول الغرب) بذات الاهتمام الذي يتصدره التطلع لإنعاش سوق السلاح الغربي.
والأجدر في هذه المرحلة أن "تستثمر" الحكومة العراقية ورئيسها السيد العبادي الطاقات والامكانات والصلاحيات للقضاء على الفساد الإداري والمالي، وتهيئة العوامل - التي سلف ذكرها -التي تؤهل العراق لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية، بعد أن تشجع المستثمر العراقي أولاً، وتفتح شهية العراقيين الذين فضلوا الهجرة باستثماراتهم للعودة الى البلاد، لأنهم أوْلى بـ"دعوات" الاستثمار، في ظروف السلم والحرب!
https://telegram.me/buratha