يبدو ان بعض المنخرطين في العملية السياسية قد حزم أمره منذ البداية (ولازال متمسكاً بذلك) بأن يبذل قصارى جهده لتخريب تلك العملية من داخلها، حيث ستكون المهام - وفق تقديره - مضمونة النتائج، ما دامت محصّنة بدروع المحاصصة، ومستبعدة من أية مساءلة قانونية حقيقية، فهيبة القانون لم تعد تُفرض سوى على الباعة على الأرصفة من الكسَبة، أو ممن لا حول لهم ولا قوة ولا "ظهر يسندهم"!
ولن يحتاج المرء أن يكون أسطورة في التحليل أو نابغة في قراءة الكف ليكشف أسلوباً في التخريب السياسي هنا، أو تصرّفاً و"تصريحاً" لا يقل خطورة وعدوانية عن انتحاريي داعش هناك! وذلك حينما يمارسه "مسؤول رسمي" عراقي رفيع، آثر أن "يخدم" العراق والعراقيين وهو في مركب العملية السياسية، ولكن من منصة منتصبة لأمثاله في واشنطن هذه المرة! فلقد فضّل سليم الجبوري رئيس مجلس النواب العراقي أن يطلق صواريخه من العاصمة الأميركية ضد العملية السياسية التي ينتمي اليها، ويتحصّن بحصانتها، حينما القى كلمته مؤخراً في "معهد السلام الأميركي"، وكانت بمثابة كشف حساب لوليّ الأمر الأميركي، وتقرير رسمي من مرؤوس الى رئيسه، إضافة الى وصفة تحريضية ضد "الشركاء" في العملية السياسية العراقية، اذ لم يرَ الجبوري مكاناً أفضل وأنسب من واشنطن ليمارس التحريض منه. وكأن كل منابر العملية السياسية (بما فيها المجلس الذي يرأسه) ضاقت بما طرحه في المعهد الأميركي، وفضّل توزيع الاتهامات على ملايين العراقيين (تلميحاته الأقرب للتصريح تشير بأن من يقصدهم هم الأغلبية الشيعية، شعباً وحكومة) بالتقصير في الإيفاء بواجباتهم الوطنية! ولم يراعِ ضرورة تماسك وحدة الصف الوطني في هذه الأوقات العصيبة حينما كرر ذات
المزاعم الداعشية والوهابية والطائفية بأن "ما شهده العراق كان نتيجة لمقدمات تمثّلت في سياسة الإقصاء والتهميش"، طبعاً هو لم يضف كلمة "السنّة" بعد كلمة "التهميش" ظناً منه أنه قد مارس براعة وتورية بلاغية، أفلت بها من نباهة المتلقي، الذي يستطيع بداهة أن يكمل عبارة نغمة "الإقصاء والتهميش" وكأنه يكمل فراغاً تعمد الجبوري أن يتعداه، فهذه النغمة النشاز قد صدّعت رؤوس الجميع حينما كررها زوراً وبهتاناً الساسة الطائفيون، والإعلام الطائفي الموجّه بأموال البترودولار الخليجي، والذي تشابكت مساراته مع الإعلام الأميركي والغربي في ترديد تلك النغمة المشؤومة، حتى تلاقفتها الدواعش ومعهم مؤازريهم من أيتام البعض، فجعلوا منها وقوداً لمحرقتهم، ومضخة لدموع التماسيح التي تقطر من المنابر والمنصات و"الساحات" وفضائيات "العربية" و"لجزيرة" و"الحرة" والـ" BBCالعربية" والـ"CNN العربية" و"روسيا اليوم"!
ربما يتصور الجبوري انه سيفلت من أي نقد يمكن أن يُسفّه ما طرحه في كلمته المشار اليها، بما ان "سياسيين" عراقيين آخرين قد سبقوا منهجيته هذه ولم يواجهوا أية مساءلة، اذ أطلقوا كلاماً لن ينبغي إثارته عادة سوى ضمن الحوارات الداخلية أو المناقشات داخل الأروقة الحكومية، بيد ان تكرار المنكر لا يعني انه يتحول الى صواب تلقائياً! ولن يحتاج الجبوري الى من يذكّره بأن الأقوال تقترن عند السياسي - بالضرورة - بأهمية عنصري الزمان والمكان، اذ "لكل مقامٍ مقال"، وبالطبع لن يكون بريئاً اذاً حين يصرّ بدوره على ترديد مقولات "الإقصاء والتهميش" التي يتبناها الدواعش ومؤازريهم وحواضنهم الخليجية في هذه المرحلة أكثر من السابق، لتصعيد الاحتقان الطائفي، ومحاولة كسب ثقة الأخوة السنّة بأن داعش ونظائره خير من يمثلهم! فلقد ذكر الجبوري في طيات كلمته: بأن "ما شهده العراق كان نتيجة لمقدمات تمثّلت في سياسة الإقصاء والتهميش وكبت الحريّات التي مورست خلال الأعوام التي مضت، ونتيجة طبيعية لظاهرة الفساد الإداري والمالي التي طالت أذرعها الأخطبوطية في المؤسسة العسكرية كما طالت مؤسسات الدولة الأخرى"! فهل نحتاج هنا الى كبير عناء لاكتشاف ان هذه المقولات تتطابق تماماً مع مقولات داعش والقاعدة وأيتام البعث ومجرمو النقشبندية و"ثوار" الساحات في الأنبار ومن على شاكلتهم؟! ثم هل تعسّر على الجبوري أن يختار موضوعاً آخر يتوجه به الى الأميركيين من بين مئات المواضيع التي يمكن بواسطتها الدفاع عن العراق والعراقيين من أوسع الأبواب، وليس من النفق الطائفي فقط. ثم هل نسي ان من يشتكي لهم (الأميركيين) ويتباكى من على منصتهم هم بعينهم من كان هو وكتلته يصفونهم (حتى الأمس القريب) بالقتلة والمجرمين والمحتلين والسفاحين وحلفاء الصفويين؟! وليقرّ الجبوري عيناً، اذ بات الأميركيون (كما يتمنى) مولعين بشراهة في استثمار بكائية "الإقصاء والتهميش والظلم الممارس ضد السنّة"، ويتخذوها ترنيمتهم التي يتعبدون بها في نكثهم لوعود تسليح القوات العراقية، وتجميد الصفقات العسكرية بسبق الإصرار الأميركي! ويحق للجبوري وإخوانه في السقيفة أن يطالبوا الأميركيين بثمن تقديمهم سلاح "الإقصاء والتهميش ضد السنّة" لهم على طبق من ذهب ليصّفوا حسابهم مع أغلبية الحكم، الذين سئموا الغطرسة الأميركية التي نكثت بالوعود والالتزامات!
وأي فساد إداري ومالي يريد أن يغسل الجبوري (مع كتلته وباقي الكيانات التي يمثلها) يديه منه؟ هل يحتاج الى تنشيط ذاكرته بأنه ومن معه كانوا منذ البداية في قلب العملية السياسية ومتغلغلين في أدق تفاصيل الملفات والطبخات والصفقات والتعاقدات والمعاهدات، بفضل المحاصصة اللعينة؟ أم ينطبق على الجبوري هنا قول "رَمَتْنِي بِدَائِهَا وانْسَلَّتْ"؟! أم هي موضة سائدة اليوم بأن يتباهى كل منخرط من المكونات السنيّة في العملية السياسية ومشارك في قراراتها وأذرعها التنفيذية، فيوزع التهم والمثالب والمفاسد والهزائم والانتكاسات وسوء الإدارة على الجميع ويتناسى نفسه؛ بل ويوحي بأنه قدّيس ومعصوم (أو شارف على ذلك)؟!
لا يمكن الزعم بتاتاً ان الأمر اختلط على الجبوري في خطابه السالف، فتصور -مثلاً - انه يتحدث أمام زملائه النواب في مقر المجلس ببغداد، وليس في واشنطن وفي قاعة معهد أميركي باستضافة ودعوة أميركية! ولكنه آل على نفسه إلاّ أن يسدر في غواية "نشر الغسيل" أمام السيد الأميركي، فيعرض "رؤيته ومشروعه لتصحيح الأوضاع في العراق"، حيث شدّد على "ضرورة الإسراع في إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية وفق مبدأ الكفاءة وبعيداً عن مبدأ المحاصصة السياسية المبنية على تقاسم الحصص إثنياً وطائفياً، وأن تكون قوات العشائر والحشد الشعبي تحت قيادة فيدرالية موحدة مع إيجاد خطة لنزع السلاح منها لاحقا"! ان المقام يطول - بالتأكيد - لو فككنا كل عبارة في النص المقتبس للجبوري وأخضعناها للنقاش على حدة، ولكن لا بد من الإشارة بأن بعض المتبنيات الواردة كان يتحشرج قائلها بها لو ذكرها في بغداد، فتشجّع بطرحها في حضرة السيد الأميركي وفي ضيافته. ولا بد من التأكيد هنا بأن "مبدأ المحاصصة" الذي يأنفه الجبوري - كما توحي عبارته - هو ذات المبدأ الذي جاء به الى رئاسة السلطة التشريعية (ولا مجال للإنكار)، فهل ما ارتضاه بالأمس ينبذه اليوم (مع التسليم طبعاً بأنه مبدأ كارثي في كل الأحوال)؟!
وأية ضغينة تلك ضد الحشد الشعبي حملها الجبوري معه آلاف الكيلومترات ليطلقها في عباراته من واشنطن، ولتلقى آذاناً أميركية صاغية واستحساناً لدى الحضور في القاعة؟ فهل هذه طريقته في تكريم أبطال العراق ممن حملوا أرواحهم على أكفهم، وصانوا الأرض والعرض، في الوقت الذي فضّل مدّعو "الإقصاء والتهميش" فنادق الإقليم وعمان واستانبول، أو هلّلوا ورحبوا بقطعان داعش وذبّاحيه وبايعوهم "على السمع والطاعة في المنشط والمكره"؟ وأما عن دعوته "إيجاد خطة لنزع سلاح قوات الحشد الشعبي منها لاحقا"، فليس عندي شك بتاتاً، بأنه لو كان قادراً على "نزع أرواح" أبطال الحشد لما تأخر ساعة.
وأخيراً لم يفوت سليم الجبوري في خطاب تحريضه المشار اليه، بأن يضرب عدة عصافير بحجر واحد، والحجر هو التباكي على النازحين جرّاء حروب الارهاب في العراق، حيث قال: "شاهدنا جميعا كيف تحول العراق الى بلد للنازحين بعد ان أنتج نحو ٣ ملايين نازح من سكان المناطق التي سيطرت عليها داعش.. وبدلاً من أن نحتوي النازحين ونعيد توجيه أفكارهم، اتهمناهم ومنعناهم من الوصول إلى بر آمن، والنتيجة أننا خلقنا جيشاً جديداً من المجندين المحتملين الذين يستهدفهم داعش"! لقد أراد الجبوري أن يظهر بمظهر المعتصر ألماً لما يكابده النازحين، وايضاً وجّه دفة الحديث - أو هكذا ظنّه - بأن مأساة النازحين لم توجد أساساً بسبب إجرام داعش وتواطؤ البعث الإجرامي، وخيانة أثيل النجيفي وكبار المحاصصين ووزراء ومشايخ "ساحات الثوار" في الأنبار، ودعم قطر والسعودية وحواضن الوهابية في الخليج، وتآمر تركيا أردوغان وتواطؤ الأردن والمخابرات الأميركية التي دربت التكفيريين بحجة تقويض النظام السوري؟! لقد تناسى الجبوري كل هؤلاء، في هذه العبارة أو ما سبقها، ليصب جام غضبه وعظيم حقده على الحشد الشعبي و"شركاء" العملية السياسية (وإن لم يصرّح بالأخيرين ولكنه تعرّض بهم)! ثم ها هو يسترزق بمآسي النازحين، ولو على حساب ملايين العراقيين الذي احتضنوهم ورعوهم في أغلبية محافظات الوسط والجنوب، وكذلك تلبية لنداءات المرجعية العليا التي أوصت الجميع، شعباً وحكومة باحتضانهم ورعايتهم، اذ لم تخلو كل خطب الجمعة من توجيهات المرجعية المباركة بهذا الخصوص، بالإضافة الى الجهود الحكومية التي سعت (بأقصى استطاعتها) للتخفيف عن محنتهم ومكابداتهم.
مارس الجبوري في بهتانه تقطيع أوصال الحقائق، على طريقة "ولا تقربوا الصلاة" ولكنه تعامى عن تكملة "وأنتم سكارى"! فالكل يعلم (والأميركيون علموا بذلك أيضاً) بأن الإجراءات الأمنية ومقتضيات التحوّط الاحترازي من اندساس الدواعش والإرهابيين بين صفوف النازحين، كانت وراء المطالبة بوجود "كفيل" ليتم إدخال النازحين الى بغداد حصراً وإيوائهم، وتم رفع هذا "الشرط" عبر تعليمات رسمية صريحة فيما بعد، وبالمقابل لم يرفع المتاجرون بمأساة النازحين بهتانهم وإصرارهم على تشويه الحقائق حتى الساعة! كما لم يردع ذلك سليم الجبوري من تهويل الأمور الى الحدّ الذي يضخّم التقصير الحاصل (لم تنكره السلطات المعنية، بواقع ضخامة عمليات الإغاثة)، ويذهب الى ان ذلك يؤول الى "خلق جيش جديد من المجندين الدواعش"!
لماذا لم يصرخ الجبوري بذات الاستنفار والتباكي والفزع من أن يتم "خلق جيش جديد من المجندين الدواعش" حينما كانت ساحات الانبار تضج بالمسؤولين والوزراء السنّة لدعم إخوانهم "الثوار" من الدواعش ومجرمي البعث والنقشبندية وهم يلوحون بأسلحتهم وينادون بالتمرد وبإبادة الشيعة؟ وأين تتبخر هذه الحماسة الوطنية حينما تتم عرقلة دخول قوات الحشد الشعبي الى مناطق بعينها لتحريرها من الدواعش، حتى نتفادى - على أقل تقدير- تفجّر أزمة نازحين جديدة تجعل الجبوري وأمثاله يذرفون بسخاء دموع التماسيح في قاعات واشنطن؟
بصراحة، لو كان لدينا قضاء معافى ومهاب، لمَا التزم الصمت حتى الساعة عن "جريمة التحريض المتعددة الأبعاد والمكتملة الأركان" التي مارسها سليم الجبوري جهاراً من قاعة "معهد السلام الأميركي" في واشنطن؛ بل لما تجرأ المذكور أساساً على التحريض ضد أغلبية العراقيين وحشدهم الشعبي، وشركاء (الجبوري) في العملية السياسية "الأخوة الأعداء" الذين يتهمهم بـ"إقصاء وتهميش السنّة"!
https://telegram.me/buratha