لم يتوقف الكثير من المتابعين عند عبارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، والتي أوردها ضمن كلمته في مؤتمر قمة الدول الصناعية السبع "G7" المنعقدة مؤخراً في ألمانيا، حيث قال: "ان الحرب ضد الارهاب يجب ان لا تكون مفتوحة الى الأبد دون أفق محدد، لأنها (حرب استنزاف) للقدرات البشرية والمادية"! ويبدو ان ظاهر العبارة واضح، أما ما يستدعي التوقف عنده، هو ضرورة تحرّي الدقة التي غابت بين طيّات تلك العبارة، وتحديداً فيما يخص "حرب الاستنزاف" التي مرّ عليها السيد العبادي مرور الكرام! وربما - وحسن الظن مطلوب هنا - لم يكن المقام ملائماً بأن يُفصّل بدوره مطولاً في حرب الاستنزاف المقصودة، اذ "سيحرج" الكثيرين من المؤتمرين و"المتآمرين" في تلك القمة، أو انه توخى الإيجاز لمراعاة الوقت المحدد له!
حقاً، ان موضوعة حرب الاستنزاف التي تطرق اليها العبادي، لم تأخذ حصتها من الاهتمام المطلوب، لا في الخطاب الرسمي العراقي، ولا في التحليلات والأدبيات السياسية المعنية بالحرب القائمة، اذ لفرط أهميتها وخطورتها، يمكن اعتبارها حرباً موازية للحرب التي يشنها الارهاب التكفيري، ولهذا يعجب المرء كيف تتوارى هكذا في الصفوف الخلفية للتداول اليومي؟!
في ظل غياب أي توضيح جلي من السيد العبادي (قبل وبعد قمة G7) حول الدول والجهات التي تقف وراء حرب الاستنزاف وأهدافها (غير المعلنة)، سيكون من البديهي حتى الثمالة أن يطالب العراقي المنكوب من الإرهاب الداعشي، بتوضيح الحقائق، حتى يكون على بصيرة أكبر بالمخاطر الوجودية التي تهدده وتحاصره، وليتفهم مغزى المناورات الإقليمية والدولية التي يشهدها وهي تصب جهاراً في خدمة الارهاب وتمدده وطغيانه، بينما تلك الجهات الإقليمية والدولية تصدّع رؤوس الجميع بـ"مساعيها" في الحرب ضد الارهاب!
بالعربي الفصيح، أصحاب القرار السياسي الرسمي العراقي مطالبون بشفافية أكبر لإماطة اللثام عن خفايا حرب الاستنزاف، مستهدفة العراق والعراقيين مباشرة، وذلك بتوضيح الحقائق بشأنها، وما تشكله من مخاطر جسيمة تهدد "القدرات البشرية والمادية" التي أشار اليها العبادي، وبما تشمل من أبعاد تدميرية على المدى الطويل، واعتبار ذلك حقاً طبيعياً للمواطن المكتوي بنار الارهاب.
ان مسؤولي الدول التي تدعي "وقوفها الى جانب العراق" لا يستحون من استغلال أية فرصة للتدخل (علانية) في الشأن الداخلي العراقي والتهجم والانقضاض على الأنشطة الرسمية العراقية، فهذا وزير الخارجية الإماراتي يتهم الحكومة العراقية بأنها رعت الارهاب، وقبله فعل ذلك سعود الفيصل، وغيره كثيرون..!
* * *
قد يتبادر الى الأذهان للوهلة الأولى بأن الحرب الهمجية التي يشنها داعش هي المحرك الوحيد لحرب الاستنزاف ضد العراق، وهذا التصور يجنح بطبيعته الى تسطيح الحقائق، اذ بواقع تعدد جوانب الاستنزاف السارية المفعول منذ عدة سنوات، تتعدد محركات ذلك أيضاً، وما داعش ونظائره من المجاميع الارهابية سوى جزء من خطة الاستنزاف، التي تستهدف المقدرات البشرية والمادية (كما سلف ذكره)، الى جانب إيقاف عجلة النمو في العراق، كبلد بحاجة الى خطط تنموية طموحة عقب انعتاقه من حقبة الدكتاتورية المظلمة، والتي جثمت على صدر العراق لأكثر من 3 عقود، أحالته الى بلد مكبّل بـ"التعويضات" المهولة، ويطحنه انهيار اقتصادي ضارب غذته السياسات الطائشة وتبعات الحروب الكارثية! ويمكن القول ان الإرادات والدول التي وقفت وراء استفحال دور داعش سعت بواسطته الى تفعيل أحد محركات حرب الاستنزاف، والتي ينسجم في فاعليته مع باقي المحركات. وكانت من أهداف الاستنزاف إدخال العراق في نفق التبعية الاقتصادية عبر حرق ثرواته بنار حرب الارهاب المستعرة، وما يترتب على ذلك من إنفاق عسكري باهظ التكاليف، اذ بدوره يصيب الدخل القومي في مقتل، ويجفف السيولة النقدية، كما يشلّ كل الخطط التنموية بما فيها مشاريع البنى التحتية، التي تتداخل مع الحياة اليومية للمواطنين.
الى جانب ذلك، ساهمت حرب الاستنزاف في ضرب السلم الأهلي والوئام الوطني، بصورة فتحت الأبواب مشرعة على مخاطر داخلية، وأخرى خارجية مرادفة، اذ تهيأت الأجواء لتدخلات إقليمية عابثة بحجة "نصرة" من تعرضوا لـ"الإقصاء والتهميش"، وأفرزت فيما أفرزت تآكلاً ممنهجاً للسيادة العراقية، شكّل في واقعه وجهاً من أوجه الحروب الناعمة التي تستهدف العراق والعراقيين، الى جانب المداولة العلنية لخطط التقسيم والانفصال! ناهيك عن استفحال إفراز آخر من ذلك الاستنزاف هو الأخطر في حلقاته، يتمثل في توسيع الهوّة بين المواطنين والعملية السياسية القائمة، وهذا بدوره أفضى الى أضعاف اللحمة الوطنية المطلوبة بين الحكومة (معها الطبقة السياسية الرسمية) من جهة، والشعب المتطلع الى يوم الحسم والانتصار من جهة أخرى.. وكلما تأخر هذا اليوم، وبقي أمد الحرب مفتوحاً دون أفق محدد (حسب تعبير العبادي السالف ذكره)، كلما توسعت الشروخ بين الحكومة والمواطنين، لجهة شراسة آليات حرب الاستنزاف وحملاتها الموجهة ضد اللُحمة الوطنية. وقد ساعد غول الفساد السياسي على توسعة تلك الشروخ، بما يشكّل في واقعه إفرازاً معقّداً لجولات الاستنزاف، ولا يمكن تبرئة أطراف إقليمية من تورطها في هذا المسعى العدائي، عبر شراء الذمم، ودعم البعض ليقوم بشراء الأصوات الانتخابية، كما يتم تمكينه من شنّ حرب إعلامية ضد الخصوم تحتاج الى مئات الملايين من الدولارات توفرها أرصدة البترودولار الخليجي.
لقد دأبت أميركا ومنذ عدة سنوات على ضخ حرب الاستنزاف بالوقود الكافي لديمومتها، متظاهرة - قدر الإمكان - ببراءتها من ذلك، عبر دسّ أنفها في الشؤون الداخلية العراقية، ومحاولة التأثير على رسم التوازنات الداخلية بالطريقة التي تخدم أجنداتها، كما استثمرت الورقة الطائفية بصورة علنية وعلى أعلى المستويات، مثلما استخدمها كثيراً الرئيس أوباما في تصريحاته، ولعب السفراء الأميركيون دور "الحكام المدنيين" الفعليين. وعرقلت الإدارة الأميركية جهاراً الجهود العملية الفاعلة لتقريب ساعة الحسم ضد الارهاب، وذلك عبر خطوات كثيرة، أبرزها عدم الإيفاء بالتزاماتها المثبتة في المعاهدات الأمنية مع الحكومة العراقية وما تفرضه "الشراكة الاستراتيجية"، وعدم تسليم صفقات الأسلحة المتعاقد عليها (كانت قد استلمت أثمانها)، ويعتبر العراق بأمسّ الحاجة اليها في حربه ضد الارهاب! في موازاة ذلك، جهدت أميركا على تهيئة الأجواء لاستفحال داعش و"النصرة" بذريعة تقويض النظام السوري، فقدمت الامكانات والتسهيلات للمجاميع الارهابية (وصفتها بالمعتدلة)، كما درّبتها وحثّت دولاً كتركيا والأردن على تبني خطط التدريب، كل ذلك يجري في الوقت الذي تتبجح به أميركا بأنها تقود تحالفاً دولياً للقضاء على الارهاب! بينما تفصح الأحداث والتطورات بأن أميركا ليست في عجلة من أمرها (في هذا الملف)، بل ويسعى الديمقراطيون (الحاكمون) الى ترحيل أزمات المنطقة الى الجمهوريين (مثلما فعل الجمهوريون قبل استلام أوباما للرئاسة)، كجزء من خطة الديمقراطيين في حال فشلوا في الانتخابات المقبلة. كما ان أميركا مستفيدة من إطالة أمد "الحرب على الارهاب" بواقع انها أطلقت مارد سباق التسلح من قمقمه مجدداً في المنطقة؛ بل والعالم، مما يدّر عليها مئات مليارات الدولارات، وينعش بالتالي صناعة الأسلحة في أميركا والغرب، حيث يؤول بدوره الى إنعاش قطاعات اقتصادية مرادفة أخرى، ويخفف من وطأة الجمود الاقتصادي، مثلما يقلل من مستويات البطالة!
لم يغب الدور الإقليمي المؤازر لأجندات الأميركيين في المنطقة يوماً، فلم تتوقف - مثلاً - المساعي السعودية ومعها القطرية في تقويض العملية السياسية في العراق بعد التغيير عام 2003، مدفوعة بهواجس طائفية ومساعٍ لتغييب الدور العراقي، إضافة الى الطموح بالهيمنة على القرار الإقليمي. وتكرّست تلك المساعي عبر الدعم اللامحدود للمجاميع الارهابية وبيادق "المحاصصين" المندسين في تلك العملية السياسية، الى جنب الجهود المحمومة العلنية من قبل حواضن التكفيريين في الخليج، وما تقدمه من دعم غير محدود مادياً ومعنوياً وإعلامياً، وإمداد الجماعات الارهابية بـ"المتطوعين" الذين شكلّوا بهويتهم السعودية الشاخص الأكبر في أعداد الارهابيين الذي عاثوا فساداً في العراق. كما كانت أبرز خطوات حرب الاستنزاف التي نفذتها السعودية ضد العراق - على وجه الخصوص - هي تخفيض أسعار البترول، والتي تزامنت تقريباً مع استفحال خطر داعش إبان نكبة الموصل العام الماضي، اذ أصاب هبوط الأسعار الاقتصاد العراقي في مقتل، باعتبار الواردات النفطية تشكل الجزء الأعظم من الدخل القومي، وهذا بدوره خلق عجزاً في الميزانية، وأوقف الكثير من المشاريع الحيوية، وبات يؤثر على خطط التسليح التي تعتبر شرياناً حيوياً يمد العراق بسبل القضاء على الارهاب في الحرب المحتدمة!
لقد انسجمت الجهود الأميركية والخليجية تماماً مع تركيا أردوغان في حرب الاستنزاف ضد العراق، حيث لم يوفر نظام أردوغان جهداً في دعم داعش ونظائره، عبر فتح الحدود التركية لتدفق عشرات آلاف الارهابيين، القادمين من أكثر من 100 بلد، إضافة الى مدّهم بالتسهيلات اللوجستية، وتسويق البترول الذي يستخرجه داعش من الآبار التي استولى عليها، والتي تشكل وارداً حيوياً يضمن استمرار أنشطته، الى جانب تسويق الآثار العراقية والسورية المنهوبة هي الأخرى، والتي تدر تجارتها مئات ملايين الدولارات على التنظيم، الذي صُنّف كـ"أغنى" تنظيم إرهابي عرفه عالمنا المعاصر! إضافة الى الاحتضان التركي لزعماء الارهاب المطلوبين للقضاء العراقي بجرائم خطيرة، وتأييده المستمر لنزعات التمرد ضد الحكومة العراقية، واستثمار الشحن الطائفي كورقة مفضلة، بحجة دعم السنّة الذين يعانون من "الإقصاء والتهميش"! وهذه اللافتة ذاتها التي تجعل الأردن ينضم الى جوقة حرب الاستنزاف التي نحن بصددها، فلم يتخلف النظام الأردني يوماً عن الركب الأميركي - الخليجي في تقويض العملية السياسية العراقية، وبطرق شتّى، وصلت الى حدّ تدريب الارهابيين في معسكرات سريّة أردنية، واحتضان قتلة الشعب العراقي، ورعاية مؤتمرات الارهاب الموجه ضد العراق.
الى جانب كل ذلك ينشط داعش منذ البداية في تفعيل إحدى مراحل "بروتوكولاته" الارهابية المعروفة بـ"إدارة التوحش"، وهي مرحلة "شوكة النكاية والإنهاك"، والتي تصب في مجملها ضمن "استنزاف العدو" على كافة الأصعدة، وخصوصاً الأنشطة التخريبية، إضافة الى تقويض البنى التحتية وتعطيل عجلة الاقتصاد، وقد ورد صراحة في إحدى الفقرات: "علينا استهداف أهداف اقتصادية مؤثرة للعدو، وعلينا تتويج ذلك باستهداف قطاع البترول"، كما يعتبر في مكان آخر بأن "أن استراتيجية استهداف اقتصاد (العدو) بصفة عامة استراتيجية معتبرة سياسياً وعسكرياً، ولا ينبغي أن تغيب عن الحركة الراشدة"! وهذا طبعاً نموذج من الأسس التي يعتمدها داعش في حرب الاستنزاف، التي تتلاقى وتنسجم مع ما تمارسه باقي الأطراف المنخرطة في هذه الحرب - والتي سلف ذكرها - ضد العراق.
إزاء حجم الاستهداف الذي يتعرض له العراق والعراقيون، ينبغي أن تبدي الحكومة العراقية، وعلى رأسها رئيس الوزراء، شجاعة أكبر وشفافية بمستوى التحديات، تذكر الأمور بمسمياتها، وتنأى عن مداراة هذا الطرف الإقليمي أو ذاك الدولي، الى حدّ ضياع الحقوق وإلحاق الضرر والحيف بالبلد والمواطن، أو الوصول الى نقطة اللاعودة - لا سمح الله -، خصوصاً حينما يتم التعرض لمواضيع خطيرة (كحرب الاستنزاف) تمسّ حاضرنا ومستقبلنا، في مرحلة نحن أحوج ما نكون فيها الى الإمساك بأضواء كاشفة، لنعرف في العتمة من هو الصديق ومن هو العدو بوضوح. وبالطبع يتوافر السيد رئيس الوزراء - أكثر من الجميع - على أغلب الحقائق وأكثرها خطورة، والتي تكشف لنا أبعاداً خافية كثيرة من حرب الاستنزاف الموازية للحرب ضد الارهاب.
فمتى يحين أوان الإفراج عنها بصراحة المحارب الجسور، العازم على تقريب ساعة النصر بإذن الله؟!
https://telegram.me/buratha