سيطرت الارتجالية على مجمل القرارات والخطوات السياسية السعودية بعد تولي الملك سلمان بن عبد العزيز لمقاليد الحكم، وقد تبلور شبه إجماع لدى المراقبين بأن نزعة الهيمنة والتسلط لدى ولي ولي العهد محمد بن سلمان (نجل الملك) هي التي تقف وراء ذلك، ضمن سياق تطبيق حزمة من الإجراءات تهدف الى إعادة ترتيب مكعبات البلاط السعودي وتأثيث البيت الداخلي بعد مرحلة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وصعود ما يُطلق عليهم رجال الصف الثاني من "الأمراء الشباب"، كتوطئة "لانتقال سلس" في المهام القيادية اليهم من الصف الأول (يشكله الأمراء الطاعنون في السن من الأسرة الحاكمة)!
وقد مثلت مغامرة "عاصفة الحزم" ذروة الخطوات الارتجالية والاستعراضية المتسارعة للقيادة الفعلية متمثلة بوزير الدفاع وولي ولي العهد محمد بن سلمان (يتسنّم عدة مناصب رسمية حساسة)، اذ يبدو ان هاجس النجومية قد تملّك الأمير الشاب وترك أثره على أغلب تحركانه وقراراته وإدارته للملفات التي يستحوذ على مفاتيحها، خصوصاً بعد "التصفيات" التي أطاحت بولي العهد مقرن بن عبد العزيز ونخبة من "الحرس القديم" والمناوئين المحتملين. كما تصاعدت هيمنته على الكثير من قرارات البلاط، مثلما تفصح عن ذلك تقارير رصينة وتسريبات متواترة. وقد فاقمت تلك الارتجالية مع حداثة محمد بن سلمان في تجربة الحكم مخاوف الكثيرين في منظومة الحكم السعودي، لما تشكله من مخاطر داخلية أولاً، وأخرى مماثلة تختص بالوضع الإقليمي ثانياً، وفي هذا البُعد استحال الوضع الى برميل بارود لا مفر من انفجاره الكارثي فيما لو عبث به مغامر جامح من عيار الأمير الشاب!
هناك انطباع سائد (تسنده الدلائل القائمة) بأن عربة القرار السعودي في "العهد الجديد" بالزعامة الفعلية لمحمد بن سلمان قد خرجت عن سكتها التقليدية، ذلك القرار التي كان يتّسم بالنفس الطويل والابتعاد عن الانفعال والخطوات الطائشة والتخبط العلني والركون الى الحلول الكارثية كما هو حاصل الآن! كما لا يخلو شوط الجموح الذي يصاحب خطوات محمد بن سلمان في إحكام قبضته الحديدية على كل مفاصل قرارات البلاط السعودي، لا يخلو من منغصات وتململ وتبرّم يُبديه بعض الأمراء الطامحين من العائلة الحاكمة، وآخرون شعروا بالغبن والانزواء القسري بعدما كانوا في مراكز متقدمة وفي بؤرة الضوء في العهد السابق.
لو جُمعت الملفات الساخنة التي تمور بها الأوضاع الإقليمية ووضعت على طاولة القرار السعودي، سيهيمن عليها جميعا الهاجس الإيراني (كعامل مشترك) من منظار سعودي، فهذا الهاجس هو الشغل الشاغل للقيادة السعودية الجديدة، وبدقة أكبر، قد تكرّس على شكل فوبيا لدى هذه القيادة، ولا مراء بأن هذا الهاجس محكوم أساساً بالبعد الطائفي، وبأن السعودية السنّية "لا تسمح" بأن ينافسها الدور الإيراني الشيعي في المنطقة والعالم الاسلامي بشكل من الأشكال، ومستبعد تماماً الحديث عن شراكة بين الدورين كما أثبتت العقود الأربعة المنصرمة! ولكن في ذات الوقت أدركت القيادة السعودية بأن الهاجس الإيراني يمكن أن يكون محركاً لخطوات عملية تدشن بها هذه القيادة باكورة إجراءاتها لإحكام قبضتها الداخلية أولاً، وإعطاء انطباع بأن القاطرة السعودية قد انطلقت لاستعادة فاعلية الدور الإقليمي السعودي ثانياً، هذا الدور الذي أصابه الضمور بفعل أزمات فجّرها أو ساهم في تأجيجها العهد الملكي السابق، وتم ترحيلها الى العهد الجديد (بتركتها الثقيلة)، حيث شكّلت حصاداً لحماقات ارتأت أن تسخّر كل القدرات السعودية والخليجية لصالح سياسات إقليمية تهدف الى تقزيم الدور الإيراني أو محاصرته (في أسوأ الاحتمالات). وقد شكّل التأثير الإيراني في ملفات المنطقة كابوساً مستداماً للنظام السعودي، كالملف الفلسطيني واللبناني والسوري والعراقي، مضافاً الى ذلك ملف "النووي الإيراني" الذي شغل حيّزاً كبيراً في بلورة السياسات الإقليمية السعودية ومعها الخليجية، وما يرافق تلك السياسات من ردود أفعال وتسارع محموم في تشكيل محاور جديدة، وإعادة النظر في أخرى قديمة!
لا يخفى على الجميع جسامة الجهود التي بذلتها السعودية وحلفاؤها الخليجيون نحو استهداف النفوذ الإيراني في المنطقة، عبر التصعيد الخطير في ملفات شائكة كالملفين السوري والعراقي، واللعب بالورقة الطائفية التي تستهدف إيران (الشيعية)، على انها تقود الشيعة في الإقليم، مما استدعى سعودياً إشعال الحريق السوري الذي مهّد للحريق العراقي، بفعل حروب الارهاب التكفيري الممولة والمدعومة سعودياً وخليجياً بالدرجة الأولى، وهذا ما لا يمكن دحضه بحال من الأحوال!
واستمراراً لتلك السياسة السعودية، لم يتورع قادتها التوغل أكثر صوب حافات كارثية أشد خطورة، فكانت "عاصفة الحزم" كقذيفة أخرى باتجاه المرمى الإيراني، حيث فاقمت الأوضاع تأزيماً في المنطقة، وأحالت اليمن وشعبه الى منطقة كوارث، وذلك لإشباع نزوة التسلط و"النجومية" التي يُغرم بها محمد بن سلمان (كما أثبتت باقي خطواته)، فأدخل بدوره النظام السعودي في نفق مظلم، بعدما غاصت قدماه في المستنقع اليمني بصبيانية لا يُحسد عليها! كما دشّن هذا النظام سابقة خطيرة، وذلك بتأجير جيوش عربية وأجنبية من أجل "العاصفة"، بغية استبدال الحل السياسي لخلافات سياسية في بلدٍ جار لا يشكل أية خطورة على السعودية مهما بالغت الرياض في مزاعمها! أما في الشق الإيراني فكان من أهم أهداف العدوان أن يشوّش على أجواء المباحثات النووية بين إيران والدول الست الكبرى، التي تهدف الى إيجاد حلّ دائم لأزمة "النووي الإيراني". وهذا التصور والسياق في حلحلة الأزمة والاتجاه نحو "تفاهم إيراني - أميركي" أرعب الحكام السعوديين، وخلط أوراقهم الإقليمية والدولية، بواقع استفحال هاجس سعودي بأن المملكة أصبحت خارج دائرة الضوء والاهتمام من قبل أميركا والغرب (وبالتالي دولياً)، وان "التفاهم" المذكور مع إيران موجّه ضدها، والأنكى (حسب التصور السعودي) انه لم يأخذ أحد هذا الهاجس في الحسبان! وقد أفرز هذا التصور ردود أفعال سعودية، صاحبها تفكير بصوت عالٍ بضرورة "عرقلة" ذلك "التقارب والتفاهم" مهما صاحبته من "تطمينات" أميركية وغربية للحليف السعودي (والخليجي تبعاً)!
لم تخِفّ وتيرة الجهود الدبلوماسية السعودية وأنشطتها الإعلامية في إثارة الغبار حول "النووي الإيراني" وتصويره بأنه يشكّل "ترسانة نووية موجهة ضد العرب والسنّة، تفوق في خطرها الترسانة الإسرائيلية"، رغم سلمية ذلك البرنامج كما أثبتت السنوات الطويلة من عمره! وصوّرت "التقارب الإيراني - الأميركي" بأنه انقلاب على ثوابت العلاقات السعودية الأميركية، واستخفافاً بائناً بـ"الشراكة الاستراتيجية" التي تربط الطرفين بما تحكمها من مصالح استراتيجية متداخلة! والتقت الجهود السعودية بوضوح مع مثيلتها الإسرائيلية في التصدي لأية صيغة حلّ لـ"النووي الإيراني" لا تكون على مقاس وتطلعات سياستي الرياض وتل أبيب! خصوصاً وان توقيت المباحثات النووية يتزامن مع تطورات دراماتيكية في ملفات ساخنة مفتوحة ذات صلة بإيران، كالملف السوري، والآخر العراقي، و"الحرب على الارهاب"، وأخيراً العدوان على اليمن. وكان التطلع السعودي - الاسرائيلي يرمي الى وضع هذه الحزمة من الملفات على طاولة المفاوضات النووية، للخروج بتنازلات "حاسمة وحقيقية" من إيران، وفي غير ذلك ستكون نتائج المباحثات (حسب التصور السعودي - الاسرائيلي) انتصاراً لـ"إيران الشيعية" في تلك الملفات، وهذا بدوره يفضي عملياً الى إشعال سباق التسلح في المنطقة بعد تعاظم النفوذ الإيراني، ويزيد من اتساع الهوة بين الأطراف الإقليمية (حسب التصور ذاته)!
وضمن سياق تقزيم دور إيران الإقليمي (والتلويح بكبحه بالقوة) يندرج التعاون السعودي - المصري في الجانب العسكري، وخطة السيسي المسوّقة بغطاء الجامعة العربية ليتزعّم "القوة العربية المشتركة"، التي تُرضي تماماً نزعة التكتل التي تسعى لها السعودية لتوظيفها ضد المشروع النووي الإيراني. وزادت التحركات السعودية سخونة في هذا المنحى، حينما لوّحت مؤخراً كراراً بـ"خيار الردع النووي"، وذلك بإقامة مشاريع "نووية سلمية" مادامت قادرة على تسديد التكاليف الباهظة، وبالطبع سارعت أيضاً الدول الخليجية لتبني هذا الخيار.، واللافت ان الإسرائيليين مارسوا "الترحيب الصامت" هذه المرة إزاء هذه التوجهات (خصوصاً بعد الصدود الباكستاني إزاء الرغبة في التعاون النووي مع السعودية)، على عكس حساسيتهم المفرطة المعهودة إزاء أي نشاط نووي (سلمي أو عسكري) من دول المنطقة! وكخطوات عملية اندرجت زيارة الوفد السعودي الكبير (وصفه المراقبون بالمبالغ فيه) الى روسيا مؤخراً، وبعدها بحوالي أسبوع الى فرنسا. وترأس الوفد السعودي الى روسيا "النجم" الملكي محمد بن سلمان، وبصفته وزيراً للدفاع كانت من ضمن مباحثاته توقيع عدة مشاريع "نووية سلمية" مع الجانب الروسي، ونفخت وسائل الاعلام السعودية والخليجية كثيراً في هذا الجانب (على حساب جوانب أخرى في الزيارة)، بينما كان الاحتفاء الروسي شبه غائب بشأن هذه "التفاهمات النووية"! ولم تأخذ حيّزاً في التغطيات الرسمية الروسية سوى بعبارة صغيرة ضمن عرض لأنشطة الوفد السعودي الزائر!
أما عن الزيارة لباريس والتي ترأسها "النجم" الملكي محمد بن سلمان أيضا، فكانت خيبة الأمل "النووية" السعودية بارزة بوضوح، بل وأعلنت الخارجية السعودية في بيان لها بُعيد الزيارة بأنه لم يتم التوافق على صفقات أسلحة "لارتفاع أسعارها"! ولكن هذا لم يمنع السعوديين من الاحتفاء إعلامياً بـ"تفاهمات حول مشاريع نووية تنفذها فرنسا في السعودية"، ولكن واقع الحال كشف تضخيماً صارخاً لما حصل؛ اذ ذكر رئيس الوزراء الفرنسي في مؤتمر صحفي بأن السعودية "تنوي أيضا التوقيع على (دراسة جدوى) لمفاعلين تبنيهما مجموعة أريفا الفرنسية"، والنصّ واضح في فحواه، اذ هناك نية "التوقيع على دراسة جدوى" ليس إلاّ، وما أبعد المسافة بين الزعم السعودي والتصريح الرسمي الفرنسي؟! وبالتأكيد هذا التضخيم السعودي للزيارتين والتركيز على "المشاريع النووية" هو تعويض سيكولوجي يمارسه الساسة في الرياض، بل ويندرج ضمن الحرب النفسية المفضوحة، التي تحتاجها السعودية - حسب الظاهر - لترقيع الفتوق المتزايدة التي لازمتها، وفقدانها لتوازنها منذ استلام الملك الجديد لزمام الأمور، وتحديداً منذ مارس ولي ولي العهد محمد بن سلمان نزوة هيمنته وتسلطه على القرار السعودي!
يبدو ان التعويل السعودي على الاستعراض والتلويح بـ"الخيار النووي" في مواجهة "النفوذ الإيراني" ينطوي - حالياً على الأقل- على انفعالية وارتجالية، بواقع انه لم يأخذ في الحسبان تعقيدات الواقعين الإقليمي والدولي، والتحسّس الروسي بعد تدخلات أميركا والغرب في أوكرانيا من أي تعاون مع حلفاء أميركيين في مجال التسلح أو المشاريع الاستراتيجية، ومقولة أن روسيا يهمها المال أولاً وأخيراً هي مقولة أثبتت سذاجتها وتهافتها، ولذلك فالتلميح بأن الصفقات العملاقة (بنسخة نووية مثلاً) من طرف السعوديين مع الروس سيجعل هؤلاء "يليّنون مواقفهم" إزاء ملفات خطيرة كالملف السوري والعراقي و"النووي الإيراني" هو السراب بعينه، خصوصاً وان عروضاً سعودية سخية بمليارات الدولارات قُدمت لروسيا أوائل الأزمة السورية لم تزحزح الموقف الروسي بتاتاً، لأن الموضوع بالنسبة للروس أكبر من جني ثمار اقتصادية، ويتعداه الى صراع استراتيجي وتقاسم نفوذ مع أميركا والغرب تحديداً في منطقة الشرق الأوسط المتخمة بالأزمات ذات التماس باللعبة الدولية. لذا، لا ينجر الروس الى بهلوانيات و"تكتيكات" سعودية تهدف الى تقليص النفوذ الإيراني، خصوصاً وان التنسيق الإيراني - الروسي الكبير وتجلياته في ملفات إقليمية ودولية معقدة لم تصبه شروخ ما حتى تحاول السعودية أو غيرها التسلل منها! وروسيا أعلم من غيرها بأن هيمنة الإملاءات الأميركية على القرار السعودي أكبر من مناورات اقتصادية يمكن ان تستثمرها روسيا مع السعودية في الوقت الراهن! ولا ترى روسيا (كما تروج السعودية) خطراً عليها من إيجاد حلّ لـ"النووي الإيراني" من السبعة الكبار (وروسيا طرف فاعل ضمنهم) لاعتبارات جمة لا مجال لحصرها، ويكفي ان الروس سيجنون الكثير من تعاقداتهم "النووية" مع إيران بدون منغصات مستقبلاً!
وعن الطرف الفرنسي، فهو مستاء تماماً بأن المراوغة السعودية قد جعلته المحطة الثانية بعد زيارة روسيا (لما تحمل من دلالات اعتبارية)، ويدرك أيضاً ان "القرار النووي" في السعودية أكبر بكثير من أن يقرره لوحده "النجم" الملكي محمد بن سلمان! وفرنسا مقتنعة ان المناورات السياسية السعودية هي التي أفرزت هذه الفورة "النووية" لمجرد الضغط على إيران وتسجيل النقاط ضدها، بينما مثل هذه المشاريع "الحساسة والحيوية" ينبغي أن يصاحبها إجماع مع الأميركيين، الذين يبدو انهم "غير مقتنعين" على الأقل بهذه الأفكار الارتجالية في الوقت الراهن، وإنها لا تعدو كونها زوبعة "نووية" في فنجان المنطقة، ستُضاف الى تخبطات المملكة بقيادة محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي هناك حتى إشعار آخر!
https://telegram.me/buratha