تداول الاعلام المصري الورقي والالكتروني والفضائي بكثافة غير مسبوقة الأربعاء 9/9/2015 بيان شيخ الأزهر "أحمد الطيب" الذي "يدين فيه الاعتداء الآثم على مسجد (المثنى) في بغداد" والذي وقع قبل يوم واحد! ولو لم تصحب هذا البيان بعض الإشارات الخطيرة لأمكن اعتباره خبراً روتينياً ليس إلاّ! الإشارة الأولى تمثلت في التأهب المدروس وغير المسبوق - هذه المرة - من كبريات المؤسسات الإعلامية المصرية على اختلاف مشاربها في نشر البيان المشار اليه، وبتوقيت موحّد يتصدّر أهم الأخبار والتقارير، وكأنه البيان رقم واحد لإنقاذ الأمة الإسلامية من مآزقها وويلاتها وتحرير قدسها! الإشارة الثانية هي "التوقيت العراقي" لبيان فضيلته (سيأتي تفصيل التوقيت)، أما الإشارة الثالثة فتخص "التوقيت الإقليمي" للبيان (سيأتي تفصيل ذلك ايضاً).
بدءاً، لا يمكن بحال التقليل من خطورة وفداحة الاعتداء على مسجد "المثنى" أو أي مسجد أو دار للعبادة، للمسلمين أو لباقي الأديان، في العراق أو أي بلدٍ آخر، فهذا مبدأ لا غبار أو مزايدة عليه، أما أن تكون ازدواجية المعايير هي المهيمنة في التعامل مع هذا المبدأ، وتصبح قدسية مسجد ومن يؤُمّه أعظم شأناً من غيره من المساجد ومرتادوها، فهذا مما يثير الشك والريبة في بيانات وصرخات "الشجب والإدانة" مهما كان مصدرها! وبالطبع سيكون التشكيك أعظم فيما لو مارس هذه الازدواجية أرفع مقام (على وعي ودراية بخطورة هذه الازدواجية) في صرح إسلامي كبير وعريق هو الجامع الأزهر! ومن المؤسف اننا لمسنا مراراً هذه الازدواجية في مواقف الأزهر ومشيخته في السنوات الأخيرة - على الأقل -! فلم نشهد - مثلا - ذات الغضبة المُضَرية من الشيخ الطيّب حينما كان الأمر يتعلق باعتداءات وحشية وتفجيرات استهدفت المساجد التي يؤمّها الشيعة، وكذلك حسينياتهم ومزاراتهم من قبل التكفيريين و"السلفيين الجهاديين" وأغلبهم كان قد تخرّج من الأزهر، وباتوا زعماء للتنظيمات الإجرامية يزرعون الموت والخراب في العالم أجمع!
ولنكن دقيقين أكثر، هل في أرشيف مشيخة الأزهر مئات البيانات النارية (كالبيان الأخير) بعدد تلك المساجد والحسينيات والمزارات التي تعرضت لـ"اعتداءات آثمة" طيلة العشرين عاماً المنصرمة في العراق وباقي البلدان الاسلامية، وذهب ضحيتها آلاف المدنيين الأبرياء من المصلين المؤمنين؟! حيث كانت كل تلك الهجمات والاعتداءات الوحشية تحمل طابعاً طائفياً مباشراً يتبناه مقترفوها ويتبجحون به بلا مواربة!، ولتبسيط الأمر، أين كان الأزهر وشيخه حينما تم التنكيل والتمثيل بالشهيد الشيخ "حسن شحاتة" وصحبه الأبرار في مجزرة قرية "زاوية أبو مسلم" بمصر قبل عامين؛ ولم يكن "جرمهم" سوى انتمائهم لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فلم يرّف جفن من مؤسسة الأزهر على المغدورين آنذاك، فهل لم تكن حرمة دماء هؤلاء المؤمنين بأهم من ممتلكات مسجد "المثنى" الذي يتباكى شيخ الأزهر على حادثته بالأمس؟!
ربما كان الأجدى اليوم أن تبدد مشيخة الأزهر ازدواجية المواقف التي تلازمها لتسترجع دورها الحقيقي، حيث تمرّ الأمة بأخطر منعطفاتها، وتواجه وحش الإرهاب التكفيري السلفي الذي يفتك بالحرث والنسل، مستمداً وقوده من الشحن الطائفي البغيض، الذي ظلت تتفرج عليه هذه المشيخة وأطقمها حتى استفحل أمره وعظم خطره؛ بل وأصبح من "أصول الدين الجديد" الذي يتعبّد به التكفيريون، هؤلاء الذين نأى الأزهر وشيخه عن "تكفيرهم"؛ بينما دعا الى تقطيع أوصالهم! ولم يخلو الأمر طبعاً من بيان أزهري مرتجف وسطحي هنا، أو "موعظة" عابرة هناك، وكأن الأزهر قد فعل ما يتوجب عليه فعله، حتى بلغ السيل الزبى، وامتدت يد الإرهاب التكفيري الداعشي مع مناصريه الى سيناء وقلب القاهرة وباقي المدن المصرية الكبرى، واستفاق الأزهر مأخوذاً على وقع اعلان "ولاية سيناء" المبايعة لـ"الخليفة الداعشي"، وهزّات الانفجارات الارهابية وأزيز الرصاص التكفيري قرب مقراته في قاهرة المعز! وحتى حينما "استفاق" تبين للجميع ان العمائم السلفية المحشوة بثقافة الاستئصال والتكفير وقطع الرؤوس وأكل الأكباد متفشية بين منتسبي الأزهر وهيئاته التدريسية والإدارية، وهذه الحقيقة أكبر من أن يتم دحضها أو التغطية عليها!
أما عن "التوقيت العراقي" لبيان شيخ الأزهر، فلا يخلو الأمر من استمرار للنهج الذي التزمه الشيخ في مناصبة "الحشد الشعبي" العداء والتربّص به منذ اليوم لانطلاقة جهاده المبارك، امتثالاً لفتوى "الجهاد الكفائي" للمرجعية العليا المتمثلة بسماحة المرجع السيد السيستاني (دام ظله)، وطبعاً هذا الموقف المستهجن من الأزهر وشيخه ينسجم تماماً مع دواعش السياسة في الراهن العراقي، ومع الحواضن الوهابية التكفيرية في الرياض وباقي العواصم الخليجية، ولن نأتي بجديد لو قلنا انه ينسجم أيضا مع خطاب داعش الطائفي تجاه عدوه الأشدّ، متكرساً في "الحشد الشعبي". وشهدنا كيف أن شيخ الأزهر لم يترك فرصة ما إلاّ واغتنمها لينال من كيان الحشد، ويوصمه بأنه "طائفي يستهدف الفتك بأهل السنّة"! وفي هذه الجزئية تحديداً، لو كان الإنصاف والبصيرة يسندان مواقف شيخ الأزهر هذه، لكان أول من أشاد بدور "الحشد الشعبي" الذي لا يحيد عن أوامر المرجعية العليا، باعتبار الحشد قد تشكّل أساساً على ضوء فتوى المرجعية المباركة. أما المرجعية العليا فكانت - وما زالت - صمّام الأمام الذي حفظ السلم الأهلي، وحقن دماء المسلمين قاطبة، وأطفأت بمواقفها المسدّدة والحكيمة نار الفتنة الطائفية والحرب الأهلية، التي أضحت من أهداف الارهابيين التكفيريين. فمن يأتمر بأوامر هذه المرجعية المباركة، لن يقف يوماً مع الطائفيين في خندق واحد، كونه يحمل مشروعاً إنقاذياً وطنياً. وأثبت "الحشد الشعبي" الذي دافع عن العرض والأرض في أغلب المناطق السنّية، بأنه يتسامى على الحسّ الطائفي، ويضع أبطاله أرواحهم على الأكف من أجل تطهير كامل التراب العراقي من دنس الارهابيين، كما كانوا الضمانة الحقيقة لتبديد المدّ الإرهابي الذي وصل الى مشارف العاصمة قبل عام واحد.
ويشهد الراهن العراقي تكالباً محموماً من قبل السياسيين الدواعش ضد كيان "الحشد الشعبي"، تجلّى في التوطئة لبديل مشوب بكثير من اللغط والثقوب هو "الحرس الوطني" وقانونه الذي قيد التحضير، الذي يراد له أن يكون بمقاس الطائفيين والانفصاليين (التقسيميين)، بزعم انه الحل السحري لإنقاذ العراق من براثن الارهاب، كما يسعى هؤلاء الى تصويب نيرانهم بضراوة أكثر من السابق ضد كيان الحشد، ووصمه بأنه "ميليشيات طائفية" تهدف الى "إبادة أهل السنّة"، حيث يمكن بهذه المزاعم إدامة تلقي الدعم من حواضن الارهاب التكفيري في الخليج، وكذلك تلقي المساندة والمؤازرة من الأزهر باعتباره أكبر مرجعية إسلامية سنّية حتى اللحظة.
لقد جاءت خطوة التصعيد الواضحة في لهجة البيان الأخير لشيخ الأزهر، لينصب ضمن الحملة الطائفية المشبوهة التي تستهدف كيان الحشد الشعبي، وما يمثله من ضمانة للانتصار على داعش ونظائره، لماذا؛ لأن البيان يتهم "ميليشيات طائفية"، دون أدنى تقصّي، ودون الاستناد الى نتائج للتحقيقات الرسمية، ومما جاء فيه: "إن الأزهر يدين الاعتداءات الآثمة على بيوت الله مِن قِبَل (الميليشيات الإرهابية الطائفية)"، ويُقصد بهذا المصطلح وفق "أدبيات" بيانات الأزهر عادةً "الحشد الشعبي" والمجموعات الجهادية المنضوية تحت مظلته، وهذا الاتهام ينفخ أكثر في نار الطائفيين المتربصين شراً بكيان الحشد! ولم يتوقف شيخ الأزهر للحظة متدبراً ويتساءل؛ هل تعذّر على داعش الذي يسعى لخلق الفتنة الطائفية بكل ما أوتي من قوة، بأن يعتدي على مسجد للسنّة هنا، مع إطلاق شعارات طائفية (كما ذكر البيان)، ثم يعمد في مكان آخر الى اقتراف ذات الاعتداء على مسجد يؤمّه الشيعة أو حسينية لهم، ويطلق أيضاً شعارات طائفية تنال منهم، فيوهم الجميع بأن كل طرف قد اعتدى على الآخر؟! وهل في ذلك خيال علمي، أم انه أبسط ما اقترفه داعش - ومازال -، ومعه المعسكر التكفيري ومؤازريه من فلول البعث الإجرامي، وباقي الدوائر الاستخبارية التي لا تريد للعراق أن يتعافى؟! اذ من مصلحة هؤلاء مجتمعين أن ينشغل المسلمون بحروبهم الطائفية والتكفيرية، كما أثبت ذلك الوقائع والقرائن واعترافات من يؤسر من الارهابيين! ولذلك يأتي توقيت بيان شيخ الأزهر عراقياً ملفعاً بالشبهات، وهو يتسرع باتهام الشيعة (تلميحاً أقرب الى التصريح)، فلربما استمع لزعماء الفتنة وسياسيي داعش في العراق، فكانوا ممن عنتهم الآية الكريمة اذا جاؤوا بنبأ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ".
أما عن "التوقيت الإقليمي"، فبينما يرسل نظام السيسي حالياً ما يزيد على 1000 من جنوده الى محرقة اليمن، في أخطر تصعيد تشهده الحرب العدوانية ضد اليمنيين، التي تقودها مملكة الشر السعودية بدوافع طائفية ضد الحوثيين ومناصريهم، والتي باركها الأزهر بالأمس بتبعية مذلة استنكرها عموم المسلمين، ارتأى اليوم أيضاً تهيئة "شرعية دينية" يقدمها كمبرر للشعب المصري حينما يعود أبناؤه في توابيت من محرقة "اليمن الشقيق"، قرباناً للنهج السعودي الوهابي التوسعي، وهذه "الشرعية" وظيفتها إذكاء النعرات الطائفية (المنسجمة مع دوافع هذه الحرب)، على أن الحوثيين "الميليشيات الطائفية" جزء من عموم الشيعة في العراق والعالم الاسلامي، وحينما يتم اليوم تضخيم حادث الاعتداء على مسجد "المثنى" لأهل السنّة في بغداد، فهذا يعني ان مثل هذه "الميليشيات الطائفية" تستهدف أهل السنّة قاطبة! ولهذا (حسب لهجة واتهام البيان) تُشحَن الذهنية العامة ضد الشيعة (والحوثيين منهم حسب الاعلام الموجه) مما يستحقون أن يرسل المصريون جنودهم ليسحقوهم ويمعنون في فتكهم! وهذا ما يُفسّر لغز الاهتمام المبالغ به بحادثة مسجد "المثنى"، والتركيز بشدة على بيان الأزهر بشأن الحادثة من قبل المؤسسات الإعلامية المصرية الموالية للرئيس السيسي وسياساته، والتي نقلت عنها كل وسائل الاعلام الخليجية بذات الاهتمام المحموم والمشبوه!
كان محتملاً أن تكون هذه القراءة الأخيرة خاطئة، في حالة كان شيخ الأزهر (محتاطاً ومتأنياً) في إطلاق اتهاماته الخطيرة في البيان، تلافياً لأي تصعيد في الأجواء المشحونة للمسلمين عامة (على أقل تقدير)، هذه الأجواء التي تكفلت طائفية الدوائر السعودية الوهابية وأدواتها بتسميها، وكادت أن تنجح هذه الدوائر في تحويل حرب اليمن الى حرب سنّية - شيعية!
فأين نتلمس الحكمة في شيخ الأزهر وهو يرمي الحطب في تلك النيران المستعرة؟! فلا يُعقل ان فضيلته ممّن لا يراعون التوقيتات الخطيرة، أو ممّن تعوزهم الفطنة والحنكة فلا يعتبرون بالقاعدة الفقهية "درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح"، وأية مفسدة أعظم خطراً من نار الطائفية التي أوقدتها المؤسسة الوهابية السعودية وأذنابها منذ عقود في مشارق الأرض ومغاربها (بينما نجد بيان شيخ الأزهر يزيد في أوارها اليوم)، وأية مصلحة أعظم من حفظ الوحدة والوئام بين المسلمين في راهننا الملتهب؟!
https://telegram.me/buratha