أفرز استفحال الارهاب التكفيري، والذي تزعمه تنظيم داعش ونظائره، خصوصاً بعد نكبة الموصل وتمكّن الارهابيين من التسلط على مساحات واسعة من الأراضي في سوريا والعراق وليبيا، أفرز "ظواهر" عديدة مستحدثة، وإحداها تدعو الى "عقلنة المواجهة" ضد الارهاب! والمراد بتلك "العقلنة" النظر برَويّة وشمولية الى المناشئ الفكرية والعقائدية والاجتماعية والسياسية التي أنتجت (فيما أنتجت) تيارات الارهاب التكفيري، التي تضخ داعش ونظائره بمقدرات البقاء، من عدّة وعدد، وامكانات مادية وبشرية، إضافة الى غطاء "عقائدي" يمثل هوية الارهاب الحقيقية ووقوده الذي يحركه!
يمثل المتبنون لـ"عقلنة المواجهة" طيفاً متنوعاً من السياسيين والمفكرين ورجال الدين والنخب المثقفة، ويتلخص متبنى هؤلاء بأن "الأسلم والأجدى والأنجع" على المدى البعيد لـ"كسب المواجهة" يتم عبر معالجة الأخطار والنكبات والكوارث المجتمعية من "جذورها"، وذلك بإطلاق ثورة ثقافية في المجتمع الاسلامي، مصحوبة بآليات لتنقية المعتقدات مما علق بها من تزييف وانحراف وتشويه، والذي أفضى كله الى تغذية التطرف والفرقة والتعصب والطائفية، وتوظيف الدين لمآرب دنيوية وفئوية مقيتة، كما ينبغي إحداث ثورة في المناهج التربوية والتعليمية، وإخضاعها لجراحة علاجية لاستئصال الأورام التي تشوّه النصوص والروايات والوقائع التاريخية، ناهيك عن مهام القضاء على معضلات معاصرة، كالأمية والفقر والفساد السياسي، إضافة الى البطالة والانفجار السكاني ونقص الموارد وهجرة العقول!
لاشك ان الجميع يتفق مع هؤلاء بخصوص ما تم إيراده، بما يشكل جزءاً من "وصفات علاجية" طويلة الأمد، وكخارطة طريق لإنقاذ واقعنا السقيم، ولكن الى جانب ذلك لا ينبغي أن يغيب عنا اليوم بأن معظم هؤلاء المتبنين لـ"عقلنة المواجهة" هم ممّن يأثرون السلامة بكل وجوهها، أو ممن أدمنوا رؤية الواقع وتعقيداته من ثقب التنظير فقط، دون الأخذ بنظر الاعتبار فداحة أثمان المنعطفات الخطيرة القائمة، التي تقلب أحياناً كل الحسابات و"المسلّمات" المقادة بالتنظير والتنظير المضاد! وفيهم أيضاً ممن كانوا يغضّون الطرف طويلاً عن ظواهر التكفير والانحرافات العقائدية والمنهجية التي تعبّد بها التكفيريون، تدعمهم خزائن البترودولار، والملفت ان هناك طائفة من هؤلاء الداعين لـ"عقلنة المواجهة" كانوا وما زالوا يداهنون التكفيريين وقواعدهم الفكرية، بطريقة أو بأخرى! ثمة أمر آخر يفرض أهميته، هو ان الارهاب التكفيري الذي يصول شرقاً وغرباً، لم يخرج فجأة من تحت الأرض؛ بل كان نتاج عقود طويلة لأنشطة التكفير وخط الانحراف المنهجي والعقائدي، الذي تفشى في المناهج الدراسية ومن على منابر التكفير، وفي متون المؤلفات التي سطرتها أقلام الانحراف وغصّت بها رفوف المكتبات لما تملكه من إمكانات مادية كبيرة، إضافة الى تسخير وسائل الاعلام لبث سموم الفرقة والانحراف، وتشويه المعتقدات والإجهاز على كل قيم الاسلام الحضارية، ومن ثم تقديم كل الذرائع والأسلحة لأعداء هذا الدين بأن يوصموه بالإرهاب والعنف والتعصب، لتشكّل هذه بمجملها مرتكزات "الاسلاموفوبيا" التي لن تزول آثارها بسهولة طبعا!
وحتى لا نغوص في جزئيات متبنى "عقلنة المواجهة" مع الإرهاب في هذه المرحلة الخطيرة والدرامية التي تمر بها الأمة، بينما سيف الارهاب مشهر على رقاب العباد، وناره تعيث في الأرض فساداً وتحرق الأوطان، وتؤلب المتربصين ضد الاسلام والمسلمين، وبما وصلت إليه الأوضاع الإقليمية - بفعل الارهاب - الى حافات حرب عالمية لا يعلم أهوالها سوى الله، لا يمكن لنا أن نضع كل هذه المخاطر المحدقة الراهنة في الثلاجة، وننتظر عقوداً طويلة قادمة ندفع أثمانها من دمائنا وعافية أوطاننا وأجيالنا، على أمل أن تعطي متبنيات "عقلنة المواجهة" ثمارها السحرية (هذا طبعاً اذا أحسنا الظن وسلًمنا بحتمية نجاحها)!
ولا نتوقع بحال أن يقبل عاقل بأن الطريق الى رفع سيف الارهاب عن رقاب العباد في هذه المرحلة التي تشهد استفحال خطر داعش ونظائره، يتم عبر تجرّع عقار "عقلنة المواجهة".. هذه الوصفة التي لا يُعرف لها لحدّ الآن أية "خطط وبرامج"، متفقاً عليها أو متسالماً بشأنها، تضمن إجماعاً عريضاً في الأمة، ودعماً من التيارات الفاعلة والنخب المؤثرة الرافضة لنهج الارهاب والتكفير!
لقد بقيت متبنيات "عقلنة المواجهة" تدور حتى الآن في فلك التنظير والرؤى والتصورات النخبوية ليس إلاّ.. ولم تحرّر شبراً أو تنقذ ضحية أو تصرع إرهابياً!
لذا؛ فمن دواعي إعمال العقل أيضاً، أن ندعم الآن المهمة العاجلة المطلوبة في غرفة الإنعاش، وذلك بحشد الجهود والطاقات والامكانات، ورفع سيف الارهاب عن رقاب الضحايا المباشرين وغير المباشرين، والعمل بواقعية مدعومة بـسلطات العقل والعدل وإحقاق الحق، لدحر هذا الارهاب الهمجي الذي يتغذى استفحاله على أمور كثيرة متشابكة، منها تشتيت جهود الأمة وتفتيت اندفاعتها باتجاه المقارعة والمواجهة، وهذا التفتيت توفره دعوات ومتبنيات "عقلنة المواجهة" التي باتت عامل تثبيط وإحباط في ظل غياب الإجماع عليها، والتوافق حول آليات تطبيقها الشامل، بينما نرى انها تتحول يوماً بعد آخر - للأسف - الى حالة ضبابية أو شعارية، أو وصفة أقراص مسكنة للألم - ليس إلاّ- لتعالج بها سرطان الارهاب، الذي يفتك في جسد هذه الأمة المنكوبة!
والمواجهة الحقيقية المطلوبة حالياً لمقارعة الارهاب التكفيري ينبغي أن تكون في ميادين القتال وبلغة الحديد والسلاح، وهذه الحقيقة لا تحجب بحال ضرورة المواجهات الأخرى طويلة الأمد، والتي تغطي مساحات كبيرة من واقعنا المعاش، في الأبعاد العقائدية والتربوية والفكرية والمنهجية، وفي غير هذا الفهم والمنطق، سنشهد بأن متبنيات "عقلنة المواجهة" التي نحن بصددها، لن توقف تمدد داعش ونظائره في بسط همجيته في أوطان أخرى مستهدفة، بواقع ان هذا الوحش التكفيري لا يُردع فقط بالنظريات ورفاهية التنظير، كما ثبت للجميع..!
https://telegram.me/buratha