دعونا نتجاوز في السطور اللاحقة ما يُثار حول وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي من ملفات وقضايا وعلامات استفهام كثيرة تطال أداءه ومسؤولياته، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، إقصاء نخبة من ضباط وزارته من المكوّن الشيعي بما أفصح عن أجندة طائفية يضمرها العبيدي في أخطر ظرف يمر به العراق وشعبه! وفضيحة الأسلحة والأعتدة التي وُجدت في منزله، و"الإخفاقات" الكارثية في قضية "ناظم الثرثار"، والتلكؤ في متابعة ملف مجزرة "سبايكر"، وتقصيره في إمداد الحشد الشعبي بالتجهيزات العسكرية وإمدادات العتاد، والتغاضي عن ملفات الفساد والصفقات المشبوهة المتواترة ضمن وزارته والتي تتحدث عنها الرُكبان! إضافة الى خطورة الاستجوابات التي تعرّض لها الوزير في مجلس النواب، والتي ظلت أغلب إثاراتها مفتوحة على مصراعيها دون لململة أو حسم!
أيضاً هناك الشبهات التي رافقت تولي العبيدي لحقيبته بفعل ضغوط من السفارة الأميركية وأخرى خليجية وتركية! إذاً لنتجاوز كل ذلك ونقف اليوم عند مصطلح مفخّخ ردّده مؤخراً العبيدي، هو "صمّام الأمان للعراق" وليس "في العراق" والفرق بينهما كبير! اذ هذا ما ذكره في حوار ضمن برنامج "بصراحة" أجرته معه الإعلامية زينة يازجي على شاشة "سكاي نيوز العربية" في الرابع من نوفمبر الجاري، وذلك عقب زيارته الرسمية للبحرين بأربعة أيام، حيث التقى القائد العام لقوة دفاع البحرين ومسؤولين آخرين.
بدءاً، لا مشاحة بأنه من الطبيعي أن يزور الوزير العبيدي العواصم العربية والإقليمية والدولية كجزء من نشاطه المفترض، ولكن حينما يتم تضخيم هدف بعض الزيارات لعواصم خليجية بعينها، والتصريح بأن لها "دوراً هاماً في دعم العراقيين والوقوف معهم في محنتهم وحربهم ضد الارهاب"، سنكون أمام صورة كاريكاتيرية أكثر مما هي مأساوية! وسيكون منطقياً التساؤل عن هذا السعي المحموم وراء "دعم الأشقاء الخليجيين" بعد تجربة مريرة عمرها 12 عاماً منذ التغيير، بينما هؤلاء سادرون قُدماً في مخطط تدمير العراق أو تحويله الى "دولة فاشلة"، بتأجيج الصراعات الطائفية والعرقية تارة، وبالدواعش وفلول البعث الإجرامي والمحاصصين منهم ومؤازريهم في حروب الارهاب تارة أخرى، أو دعم التقسيم تارة ثالثة، بما يتكامل مع المخطط الصهيوأميركي المدجّج بـ"الفوضى الخلاّقة" و"مشروع بايدن" التقسيمي، تمهيداً لإنجاز "الشرق الأوسط الجديد"!
يمكن اعتبار المقابلة المذكورة بأنها أخطر 40 دقيقة تحدث فيها الوزير العبيدي للإعلام لحدّ الآن، حول ملفات كثيرة نبشتها مضيّفته يازجي بما لا تخرج كلها عن حزمة الهواجس الطائفية التي هيمنت على المقابلة، وربما لم تستحوذ تصريحات العبيدي على "الأهمية" المطلوبة من لدن المتابعين للشأن العراقي، مع ان الوزير -والحق يُقال- قد لامس بشدة ما يجول في مكنوناته، اذ "المرء مخبوء تحت طيِّ لسانه" كما يقول الإمام علي (عليه السلام)، وربما جُرجِر الوزير الى ذلك (لا فرق)، مع انه استطرد في الحديث الى الحدّ الذي غرّد خارج سرب متبنيات رئيس الوزراء حيدر العبادي وسياسة حكومته "المعلنة" على أقل تقدير! وكأنه (العبيدي) يقف لوحده فوق جزيرة منفصلة عن هذه الحكومة، كما لم تكن مهمة "يازجي" شاقة في استخراج "دُرر" الوزير لا فُضّ فوه، فقد بذخ بأضعاف ما تأملته في الحوار!
لقد تعمدت مضيّفته في مقدمتها (انتبهوا للمقدمة) أن ترسم صورة منحطة ومبتذلة جداً عن الوضع العراقي بعد 2003، وبذريعة ان "الواقع يشهد"! ولم تتطرق مطلقاً الى دور الخليجيين (ومنهم مالكي قناتها) في التسبب بكل ذلك! وتفننت بمهنية في اختيار الألفاظ والأرقام بما يُكثّف هزيمة العراقيين (المعنوية قبل المادية) وبؤس تجربتهم السياسية منذ التغيير! ثم أنقضّت بتشفٍّ على دور القوات المسلحة قبل وبعد نكبة الموصل (تسميها هزيمة وكارثة)، ثم قالت بالنصّ عن الجيش العراقي: "جيش أكله الفساد، وتشرذمت ولاءاته.. والباقي من أرض العراق تزاحمه السيادة فيها ميليشيات عسكرية عقائدية إيرانية الهوى"! وأمام هذا الهجوم العدواني على كثير من الحقائق في حضرة الوزير المستمع باستسلام، ماذا تتوقعون أن يكون ردّه المسؤول؟! لقد اندهشت المتحدثة ذاتها حينما لم يعقّب بشيء، وقالت للوزير: "رأيت انك كنت توافق على ما أقوله"، وكان بدوره يومئ برأسه موافقاً ولم يعترض على ذلك!
في أجواء النبش الطائفي الذي أدارته يازجي بكل شهية، وكأنها لمست هوىً بذلك لدى الضيف، عرجت الى ما يطعن بسيادة القرار العراقي قائلة؛ "يُنظر اليوم الى الحكومة العراقية والى القيادات العراقية على انها تُدار (بالريموت كنترول) من إيران، بمعنى إن إيران تستطيع أن تفعل ما تشاء في العراق"! فاستدرك العبيدي على كلامها بالقول نصّاً؛ "في الحقيقة ليس الأمر الى هذه الدرجة، بحيث (الريموت كنترول) بيد إيران تماماً! لكن أكيد للانعكاسات العسكرية على أي دولة في العالم تأثير كبير، وفراغ واضح جداً، أكيد تستفاد منه أي دولة مجاورة للعراق، وهذا ما يحصل، أكيد هذه المساعدات العسكرية سيكون لها تأثير ولو بسيط حتى على القرارات السياسية، ولكن ليس بهذا الحجم"! ويبدو جلياً ان الوزير لم يقطع الطريق بالمطلق أمام مزاعم "الريموت كنترول" المهينة، حيث اعترف ضمنياً بما ذهبت اليه المتحدثة، مع تخفيف "الدرجة" فقط! كما تحدث عن "فراغ واضح جداً" وأقرّه بالقول "هذا ما يحصل"، بيد انه لم يوضحه لنا (وهو ضروري) واختار ان يجعله مبهماً! ثم انه لم يتطرق منذ توليه المنصب في أكتوبر 2014 عن هذا "الفراغ الواضح جداً" الذي يُعتبر ثقباً أسودَ إن وُجد! ولم يتطرق اليه كذلك رئيسه العبادي يوماً، لأنه سيُضعف موقف الحكومة بالضرورة، ولهذا فالوزير العبيدي مَعني (وطنياً على الأقل) بتوضيح هذا "الفراغ الواضح جداً" ليعرف العراقيون أية بَليّة يتعايشون معها طيلة 12 عاماً!
اقتنصت يازجي "فراغ" العبيدي، وأنشأت بمهارة سؤالها التالي بعد أن قرأت ما بين سطور مقولة "الفراغ" التي جاءت في سياق حديثها الطائفي عن "ميليشيات عسكرية عقائدية إيرانية الهوى"، فوَجّهت سؤالها: "إذن انت اليوم تدعو الدول العربية أن تملأ الفراغ"؟ وليس بعيداً عن توقعاتها، يجيبها العبيدي: "طبعاً الغاية الأولى من رسالتي الى البحرين هي إيصال هذه الرسالة! وأنا في كل لقاءاتي مع القيادات العربية وتحديداً الخليجية طلبت بوجود قوي في العراق، لمساعدة الجيش العراقي ووزارة الدفاع العراقية، أنا أعتقد بدون هذه المساعدة سوف لن يكون هناك (صمّام أمان) للعراق"!
العبيدي يفصح بضرسِ قاطع ان "الغاية الأولى" من رسالته الى البحرين هي ملء "الفراغ"، الذي قلنا انه لم يوضحه كلياً، بيد ان محاورته قد أوضّحته بعد أن انتزعته انتزاعاً، وتبين أن ملء "الفراغ" بعد أن أُشبع المفهوم شحناً طائفياً ضد الشيعة؛ يعني إيجاد معادل موضوعي لما وصفته يازجي بـ"الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي"، وصاغته اختصاراً بـ"الريموت كنترول" كما سلف! ثم لا ينفك الوزير عن التوغل أكثر في نظرته الطائفية لهذا "الفراغ" بالقول مشدِّداً: "وأنا في كل لقاءاتي مع القيادات العربية و(تحديداً الخليجية) طلبت بوجود قوي في العراق، لمساعدة الجيش العراقي"! هنا يحق للمتابع الحصيف أن يغمر بألف علامة استفهام عبارة "وتحديداً الخليجية" التي شدّد عليها الوزير العبيدي، والأفظع انه يقرنها لاحقاً بما هو أخطر، اذ يعتقد انه بدونها سوف لن يكون هناك "صمّام أمان" للعراق، وواضح جلياً ان عقيدة العبيدي منذ توليه المنصب (لمدة عام واحد) مسكونة بهاجس طائفي، لا مانع في التنفيس عنها في الأحاديث حتى وان اضطر أن يقفز فوق الحقائق والمسلّمات على أرض الواقع، ولا يرى جحوداً أو تزييفاً في مقارنة دور الإيرانيين بمساعدة العراق ومساندته ودعمه في حربه ضد الارهاب، مضحّين بالكثير من مصالحهم؛ بل وأمنهم واستقرارهم، بدور "الأشقاء" العرب و"تحديداً" الخليجيين، الذين قدّموا للعراق الانتحاريين والدواعش، ودعموا كل المجرمين العابثين بأمن وعافية وسيادة ووحدة العراق، بل واستكثر أغلب "الأشقاء" حتى بفتح سفارة لهم في بغداد بعد 2003! هل ينكر العبيدي كل هذه الحقائق وهو المطلوب منه أن يذكرها بشجاعة، الخصلة التي يتطلع العراقيون بأن يتحلّى بها وزير دفاعهم، الذي ينبغي أن يمثل في إحدى لياقات منصبه الشجاعة في قول الحق؟!
يبدو ان الوزير العبيدي حينما يؤكد على مفهوم "صمّام الأمان" في حديث إعلامي عقب زيارته لإحدى الدول الخليجية المتهمة بدعم الارهاب في العراق، لا يقصد حشواً كلامياً؛ بل يقصد تماماً ما يقول، وما يضمر ويخطط! كما يثبت وهو المهوس والمهموم بـ"صمّام الأمان"، بأن ذلك لا يتم سوى بالتحالف مع أنظمة ذبحت العراق من الوريد الى الوريد، وساهمت في خرابه حتى قبل التغيير، مدفوعة (كما أثبتت عملياً) بهواجسها الطائفية المدمرة، ولذلك لم تتوانَ مبكراً عن دعم الارهاب التكفيري لتقويض أي مظاهر للنهوض في العراق، وجعل مصير البلد عبرة لكل من تسوّل له سياسته وإرادته أن يخرج من بيت الطاعة الأميركي، والذي إحدى ردهاته الدول الخليجية! وهل سأل العبيدي نفسه، حينما بدأت العملية السياسية في العراق بعد التغيير، لماذا لم تبادر هذه الدول الى "دعم" العراق حينما كان بأمسّ الحاجة الى دعم "الأشقاء"، في حين اختاروا ان يدعموا أعداءه جهاراً؟ هل يستبعد الهاجس الطائفي كمحرّك لتلك المواقف؟!
وحتى يتم تكثيف البُعد الطائفي في فضاء استضافة "سكاي نيوز" للوزير، لم تفوّت المحاوِرة فرصة الاستفادة من المأساة السورية، مُستفهمة عن رأيه في التدخل الروسي الأخير الذي أثار لغطاً إقليمياً ودولياً واسعين، فأجاب العبيدي بلغة الإيقاع الطائفي ذاته الذي يلازمه؛ "التدخل الروسي بهذه الصورة في سوريا أخشى أن يخلق (استقطاباً طائفياً كبيراً)، وأخشى ان تُعاد تجربة أفغانستان في سوريا والعراق، وتتحول داعش من عشرات الآلاف الى مئات الآلاف، وهذا ما نلمسه في سوريا حالياً"! ثم أردف معقّباً؛ "سوريا أصبحت عبئاً على العراق"! ينسجم الوزير في إجابته "بشفافية مطلقة" مع متبنياته الطائفية، حيث لا يرى في ملف التدخل الروسي سوى "الاستقطاب الطائفي"، فهل روسيا تحركها "شيعيتها" أيضاً، وهل كل تحرك دولي في الإقليم سنخضعه لمكبس "الطائفية" اذا لم يصبّ في صالح الطائفيين الخليجيين ومن يتمسك بهم كـ"أشقاء"؟! كما تنسجم إجابة العبيدي مع خطاب ومتبنيات الحواضن الوهابية الطائفية ومعها المشيخات الخليجية، حيث يقف هؤلاء خلف الحريقين المستعرين العراقي والسوري، ناهيك عن الآخر اليمني وحرائق منتشرة مماثلة أخرى، يحرك هؤلاء في الغالب مرجل العداء ضد إيران "الشيعية"! ثم ما هذا الانزياح الكبير من الوزير عن الموقف الرسمي للحكومة، وبالأخص رئيس الوزراء العبادي، في مواضيع حسّاسة كهذه؟!
باختصار شديد، هل كان العبيدي يستجدي "الأشقاء" الخليجيين لإيجاد "صمام أمان" للعراق بوجه إيران، لو كانت الأخيرة سنيّة (كتركيا)، أو حتى بوذية؟!
لتجنيب العراق والعراقيين ويلات أكبر، قليل من الإنصاف ومن نبذ الطائفية يكفي يا سيادة الوزير!
https://telegram.me/buratha