ضمن تصريحات الرئيس الفرنسي "فرانسوا هولاند" التي تحمل وعيداً وتهديداً ضد داعش عقب الهجمات الارهابية الأخيرة في باريس، صرّح قائلاً: "أن فرنسا في حرب ضد الجبناء"! ونظير ذلك صرّح رئيس وزرائه "مانويل فالس" بالقول: "نحن في حالة حرب"!
تلقت غالبية المتابعين تصريح هولاند الآنف بأنه "ردّ فعل" طبيعي لرئيس دولة أصابها الإرهاب في مقتل في قلب عاصمتها، كما زعزع الثقة بالتدابير الأمنية المتّبعة من قبل الأجهزة الأمنية الفرنسية! وأعتبر آخرون لهجة التصريح تطوراً وتصعيداً "مفترضاً" لردع الإرهاب، تتضمن رسالة من شقّين؛ الأول للإرهابيين، بأن "حرباً جدّية" قد بدأت ضدهم، لا تقتصر على ما اعتادوه من طلعات جوية تشارك فيها المقاتلات الفرنسية في الإغارة على مناطق داعش في العراق، و"المهمات الاستخباراتية" التي بدأت بتنفيذها طائرات فرنسية منذ الثامن من سبتمبر المنصرم في سوريا، وتبادل المعلومات الاستخبارية مع دول التحالف الدولي، والغربية منها بالذات؛ بل تتوسع الجبهات والمواجهات والأساليب على أكثر من صعيد، بما تشمل تنسيقاً قتالياً مع روسيا أيضاً، مهّد له اتصال من الرئيس هولاند لنظيره الروسي بوتين عقب هجمات باريس، ودُشّن بتحريك حاملة الطائرات الفرنسية "شارل ديغول" باتجاه المياه المتوسطية القريبة من سوريا، إضافة الى أنشطة استخبارية محمومة لمحاصرة ومطاردة وتفكيك الخلايا الداعشية النائمة في أوربا، والتي كانت وراء موجتي الهجمات الارهابية التي ضربت فرنسا خلال العام الجاري (الأولى في يناير الماضي).
أما الشق الثاني فهو موجّه الى الفرنسيين، بأن حكومتهم تدرك حدّة تفاقم مخاوفهم، وتعمل على تبديد هذه المخاوف، بعد أن أخفقت الأجهزة الأمنية في تجنيبهم مثل هذه الهجمات، خصوصاً بعد الشروع بالعملية الأمنية الموسعة "سانتينال" عقب هجمات يناير الماضي، والتي اشتهرت باستهداف مقر مجلة "تشارلي إيبدو"، رغم ان هذه العملية كانت مستمرة مساء الجمعة الدامية في باريس في 13 نوفمبر الجاري!
في قراءة واعية مطلوبة في هذه الأوقات التي "يزهو" فيها الارهاب الداعشي على وقع هجماته الدموية في قلب العواصم الأوربية، وتهديداته التي لم تتوقف يوماً، لا بد من القول بأن تصريح هولاند الآنف بأن "فرنسا في حرب" ضد الارهاب، قد صدم معظم المراقبين في تأخيره طويلاً، فإما أنه كان في غيبوبة فصلته عن الواقع منذ سنوات، وإمّا انه كان يعتبر التهديدات الارهابية الخطيرة ضد بلاده مجرد "تهديدات فارغة" لا تستدعي التعامل معها بجدّية مطلوبة، وبالتالي تجاهلها هو "أفضل ردّ عليها"! والجميع يعلم أن تلك التهديدات من تنظيم داعش وتوائمه كانت دائماً مقرونة بأنشطة إجرامية، بعضها غير مسبوق، يجاهر الارهاب بتصديرها الى الغرب، والى أرجاء المعمورة اذا اقتضت أجندة الارهاب ذلك، ثم ان فرنسا كانت قد تعرضت الى مثل هذه الهجمات في يناير الماضي، وكانت رسالة حرب واضحة دفع ثمنها فرنسيون أبرياء، لا دخل لهم أساساً فيما يجري، ولم يعطوا تفويضاً للرئيس هولاند ولا حكومته بأن يكونوا طرفاً في استفحال دور الإرهابي التكفيري منذ أوائل عام 2011، حينما نزل الرئيس هولاند بكل ثقله في هندسة وإشعال الأزمة السورية بالتنسيق مع الشريك الأميركي، وبدرجات متفاوتة مع الحلفاء الغربيين الآخرين!
على هولاند أن يتحمل اليوم المسؤولية كاملة في ملفات خطيرة على الساحة الدولية، وصلت الأوضاع فيها الى حافات خطيرة وجنونية من العبث بالسلم الدولي، وتوسع رقعة الارهاب بسرعة غير معهودة، وتفاقم حدّة الاستقطابات بين العالم الاسلامي والآخر الغربي بما لا يصب بتاتاً في صالح الطرفين، وتأجيج الصراعات الطائفية والعرقية التي كانت نتيجتها ان الرعب قد سكن قلوب المدنيين في أوربا والغرب أيضاً، ولم يعد أحد فيهم ينعم بالأمان متذرعاً بأن آلاف الكيلومترات تفصله عن معاقل الارهاب أو "دولة الخلافة" الداعشية! هذه التداعيات الخطيرة ما كانت لتتصاعد أو تتفاقم لولا العبث والتدخل بالشأن الداخلي السوري من قبل الرئيس هولاند، الذي أشعل فتيل الأزمة الكارثية هناك مطلع 2011، بزعم المساهمة بـ"إرساء الديموقراطية في سوريا"، والتقت هذه السياسة الحمقاء بـ"الفوضى الخلاقة" الأميركية من أوسع أبوابها، لإعادة هؤلاء رسم حدود منطقة الشرق الأوسط بسكين الإرهاب، وأبلغ مقولة تفصح عن ذلك، ما صرّح به "دومينيك دو فيلبان" رئيس وزراء فرنسا السابق عقب هجمات باريس في يناير الماضي قائلاً: "إن تنظيم داعش هو (الطفل الوحشي) لتقلب وغطرسة السياسة الغربية"! وبالطبع كانت الحكومة الفرنسية شريكة فاعلة في هذه الغطرسة منذ البداية! وشهدنا جميعا بأن هذا الوحش قد خرج من قمقمه مبكراً، وقد ظّن هولاند وأوباما ومن آزرهم، انهم قادرون أن يروضوه في أحضانهم، كما يفعل مروّضو الوحوش في الأدغال أو في السيرك، ولكن فاتهم ان الكثير من المروضين كانوا في خاتمة المطاف وجبة شهية لهذه الوحوش، بيد ان وحوش الارهاب ستكون أشد فتكاً، حيث نبت لحمهم مع عقيدة تكفيرية تتعبّد بإبادة واستئصال الآخر حتى لو كان الآخر أشقاء أو أمهات أو شركاء المواطنة، فكيف الحال بالآخر "الكافر"؟! وما هو أشد فتكاً أن يحوّل هذا الوحش الإرهابي عقيدته الإجرامية الى برنامج عمل يسميه "إدارة التوحش"، مشبّع بكل ما أفرزته عقول الإجرام البشري منذ عهد قابيل وحتى اللحظة، والأنكى أن يغلفه (زوراً وبهتاناً) بقداسة دينية، فكان الاسلام ضحيتها الأولى، بعد الإيغال بتشويه وتزوير النصوص وتطويعها لمآربه!
لا مجال لهولاند أن يتهرب من مسؤوليته إزاء الدماء التي سالت في باريس مؤخراً، ولا الدماء التي تسيل في سوريا، وتبعاً لها الدماء التي تسيل في العراق منذ 2011، بواقع ان الارهاب الداعشي ونظائره استفحل دوره في سوريا واجتاز الحدود ليمارس فتكه في العراق حتى الساعة، كل ذلك حصل برعاية فرنسية - أميركية جهاراً، تحت يافطة تدريب وتسليح ودعم "المعارضة السورية المعتدلة"، التي كانت تتشكل على الأرض مجاميع سلفية تكفيرية براياتها السوداء، وفي مقدمتها داعش والنصرة، واستمر غضّ الطرف من قبل الفرنسيين والأميركيين إزاء هذا التطور الكارثي، كلاّ ينظر الى أجندة غاياته، وتحديداً الدور الفرنسي الذي كان يستميت في مطلب إسقاط الرئيس بشار الأسد، ليعيد هولاند ترتيب مكعبات سوريا ولبنان بما يناسب ترسيخ المصالح الفرنسية، التي يرى في حزب الله اللبناني وحليفه الأسد كابوساً يبدد تلك المصالح، إضافة الى تطلّع فرنسي (ضمن هذا التوجه) بإسقاط أهم حليفين لإيران في المنطقة، بما يفضي الى تطويق الأخيرة بالإملاءات في ملفات كثيرة، وأهمها الملف النووي! وبات التدخل الفرنسي العلني في الشأنين اللبناني والسوري، يؤشر على حنين لمرحلة الاستعمار الفرنسي في لبنان وسوريا بعد الحرب العالمية الأولى، وكأن هذين البلدين الذين يتمتعان بالسيادة حالياً يقعان في دائرة "المجال الحيوي" الفرنسي! ولا مانع (وفق هذا التوجه الفرنسي أيضاً) إحراق سوريا والعراق ولبنان، وإدخال المنطقة في أتون صراعات دامية لا تبقي ولا تذر؛ بل والإصرار على هذه السياسة بعد كل هذا الخراب والدمار وعشرات آلاف اللاجئين السوريين الذين بدأت تئن من "استضافتهم" فرنسا ومعها أوربا، وبعد أن سالت دماء 129 ضحية في باريس مؤخراً، والأنكى أن هولاند يصّر حاليا أيضاً بأن "إسقاط" بشار الأسد هو "الحل" لكل المعضلات! وكأن الارهاب الداعشي لم يكن نتيجة طبيعية للتدخل الفرنسي والغربي في الشأن الداخلي السوري منذ 4 سنوات! ولا يفوّت هولاند الفرصة لدعم إصراره هذا، اذ صرّح بالقول: "الأزمة السورية سبب رئيسي للإرهاب الذي ضرب فرنسا"! ولكنه لم يتجرأ في القول انه شخصياً كان سبباً في تأجيج هذه الأزمة منذ البدء، وهو من يُردّد بأن "عدم تسوية الأزمة السورية سيقود إلى مزيد من الإرهاب" كما صرّح بذلك بعد أيام من الهجمات الدامية في باريس في يناير لهذا العام! ولكنه يذهب بالحل في اتجاه ما يروم استثماره بطريقة متزمتة، أي "إسقاط" الرئيس الأسد، وهو الرئيس الشرعي لدولة ذات سيادة، واعتبار ذلك بطولة تكفل بقاءه في "الأليزيه" لفترة رئاسية قادمة! ولم يستطع هولاند أن يُقنع أحداً كيف ينهزم الارهاب بهذه الوصفة السحرية؟!
يتوجب على هولاند اليوم (كأوْلوية) أن يُقنع أولاً الفرنسيين أنفسهم بخطواته بعد مصابهم الأخير، فهل سيستمر في تضليلهم ويوهمهم بأن مهمته العاجلة التفرغ لـ"إسقاط" الأسد بدلاً من محاربة الارهاب وتجفيف منابعه الفكرية والمادية وفضح داعميه، وجعلِ الفرنسيين ينعمون بالأمان الذي سلبه الارهاب منهم عنوة؟!
كيف يُفسر هولاند للفرنسيين فقدانه للبوصلة في هذه الأوقات، فمن جهة يطلب تمديد حالة الطوارئ ويدعو إلى تعديل الدستور للتحرك ضد "الإرهاب الحربي"، ويدعو الى تنسيق مع روسيا وباقي الحلفاء الغربيين لردع الارهاب على الأرض، وهو الذي استخف مبكراً بالتدخل الروسي في سوريا بالقول: "لا معنى للتدخل العسكري الروسي في سوريا"! كما يصرّح بعد الهجمات الأخيرة بأن"عدونا في سوريا هو داعش"، وفي ذات الوقت يصرّ على مطلب "إسقاط" الأسد، بينما أغلب التوجهات في السياسة الغربية والدولية (حتى المتزمتة منها) وصلت الى قناعة مؤخراً بأن ليس واقعياً دحر الارهاب دون التعاون مع الحكومة السورية القائمة، وأما عن الحلّ السياسي فيُناقَش ضمن هذه الحزمة وليس دونها! وفي الضدّ من ذلك يحمل هولاند سلّمه بالعرض، وكأن لسان حاله يقول؛ "مكرهٌ أخاك لا بطلُ" في إجراءاته التي ينوي اتباعها لـ"محاربة الارهاب"، حيث إيمانه الأول منصبّ على متلازمة "الإسقاط" التي لم تبرحه، حتى بعد تصريحه الأخير أمام البرلمان الفرنسي بـ"ان فرنسا ملتزمة ليس فقط باحتواء؛ بل بتدمير تنظيم داعش"، أو إشارته إلى "أن خوض الحرب بقوانين قديمة بات أمراً غير ممكن"! وبالتأكيد هو أوْلى قبل الآخرين بتغيير "القوانين القديمة" هذه، لا فقط رؤية مصالحه من ثقب الإبرة، وعدم الأخذ في الحسبان ان الارهاب (وليس بشار الأسد) نقل حربه الى عقر الغرب، ويخطط مقاتلوه في بلجيكا (وليس من الرقة أو الموصل) ليضربوا في باريس، ويعد هؤلاء أوروبا والغرب بالمزيد الذي لا تُعرف أهوال عواقبه! وخير من عبّر عن ذلك وزير الدفاع الفرنسي عقب هجمات باريس الأخيرة، مشيراً الى ان الارهاب "لا يهدف فقط إلى احتلال أراضٍ في سوريا؛ بل إلى التدخل في أوروبا وخصوصا في فرنسا"! وهذا يعود أساساً للتدخل الفرنسي في الشأن السوري وما تبعه من توسعة الارهاب وخلخلة كل التوازنات القائمة، ولا أدري هل يستغرب وزير الدفاع من الحقيقة التي يذكرها أم لا؟ ولكن لنذكّره بتصريح لمدير المخابرات الفرنسية في أكتوبر الماضي، حيث قال: "الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وأن دولاً مثل العراق أو سوريا لن تستعيد أبدا حدودها السابقة"!، وهذه قراءة فرنسية خالصة للأوضاع، فما الغرابة أن يجتاز الارهاب حدود "الشرق الأوسط الذي نعرفه" ويصل الى باريس أو عواصم أوربية مرشحة أخرى؟
وحتى يكون الواقع مدعّماً بالأرقام، نذكر ما قاله رئيس الوزراء الفرنسي في آذار من هذا العام بأن "10 آلاف أوروبي قد ينخرطون في (الجهاد) بنهاية العام"! وكشف أيضاً بعد أيام من الهجمات الأخيرة في باريس بالقول: "هناك أكثر من 10 آلاف شخص مدرجين على سجلات الأجهزة الأمنية. وأكثر من نصفهم مدرجون بصفتهم إسلاميين متطرفين أو أشخاص قد يكونوا على علاقة بالأوساط الإرهابية"! فهل في هذه الحقائق والأرقام ما يُشير الى مسؤولية بشار الأسد في ذلك، أم هي نتاج طبيعي لسياسة هولاند في العبث بأمن منطقة الشرق الأوسط والشؤون الداخلية لبلدانه (ومنها سوريا)؟!
هل كان هولاند بحاجة الى سقوط 129 ضحية في باريس مؤخراً في 7 هجمات إرهابية دامية في يوم واحد، حتى يستفيق من أوهامه، ويعلم ان وصفة "الحل" التي يُبشر بها بـ"إسقاط" بشار الأسد قد باتت مهترئة، وناقضها هو مرغماً في الأيام الأخيرة بتصريحاته التي تذهب الى الحرب "ضد العدو الأول داعش" لا الى آليات "الإسقاط" التي أدمن على ترديدها منذ 2011، أي منذ أن ورّط الفرنسيين في التدخل في الشأن السوري قبل أن يورط المنطقة والعالم؟!
وهل أعتبر قبل ذلك الأنشطة الارهابية لداعش وتوائمه، في بلدان المنطقة أو في الغرب وباقي بقاع العالم "تمارين إرهابية" وليست "حرباً" كاملة العيار مفتوحة الاحتمالات على كل الأهوال، لا تعترف لا بالحدود ولا بالتآمر الدولي الذي وقف وراء تأجيجها منذ البداية؟!
https://telegram.me/buratha