يُعذر البدوي إن فارق شظف العيش وقساوة الصحراء مسترخياً تحت جنائن النخيل والأعناب، ونقاء الأهوار، ويمتدح عندما يتطبع بطباع أهل الأرض ويأخذ عاداتهم ويفعل فعالهم، وهذه تحتم عليه أن يغادر ثقافة السطو والسلب وقطع الطريق، ويدخل في دائرة الحياة المتحضرة القائمة على المهن والأعمال الحرفية والزراعة التي كان يهتم بها أهل العراق.
ذلك البدوي المتحجر إسترخى ولكنه لم يأخذ بعادات أهل الأرض، بل سلط سيف الغدر عليهم وأعتبرهم وفق توجيهات الخليفة (ملكاً له ولأجياله).
حصلت أقذر وأطول عملية إحتلال في التاريخ، إذ تأسست ثقافة تغييب أهل الأرض وإذلالهم، فحملت مراحل التاريخ أشكالاً عديدة ووسائل غريبة أمعاناً في الجريمة المتواصلة، ووصولاً إلى التاريخ الحديث والمعاصر حيث إستيراد الولاة والسلاطين والملوك لحكم أصل الأرض!..
مارست الخلافة العثمانية أحقر جرائمها بحق الجنوبيين الذين يمثلون الإمتداد التاريخي لسومر، إذ تعمّدت نشر الجهل والتخلف، لمنعهم من ممارسة دورهم الحضاري وإبقائهم تحت سطوة المحتل مهما تبدلت أشكاله. خلافة ال "أرطغرل" أستقت تعاليمها الشاذة من مصادر التراث البدوي. غاية البدوي لا تتوقف على المصلحة فقط، رغم أعتبارها العامل الرئيسي؛ غير أنّ العامل النفسي له دور كبير، فالبدو يشعرون بالصغر ويصيبهم التقزّم عندما يطلعون على مصادر الحضارة الإنسانية التي بدأت من الهور، موطن (الشروگ).
وتكريساً لذلك النهج، إستمر نظام البعث بعد أنظمة الدولة الحديثة، في تأصيل تلك الثقافة والتلذذ بممارستها وإستحداث طرق أخرى، إلى أن وصل ذلك النظام إلى مرحلة إقناع الجميع، بما فيهم أصل العراق؛ بأن (الشروگي) لا يجوز له أن يطمح فوق الحدود المسموح بها وفي كل شيء!..
تجده -الشروگي- في الجيش يصل إلى مستوى معين ثم ينهى دوره، وفي بعض الدوائر كانت هناك حرمة عرفية تحتم عليه عدم الإقتراب، بل حتى المكلف بالأمر كان سؤاله الأول "من أي محافظة، وما هو لقبك؟".. اللقب لمعرفة الهوية التفصيلية، بمعنى المذهب..!
دوائر الدعاية البعثية، بثت سمومها من خلال بناء وعي مشوّه تجاوز على حقائق التاريخ وطمسها لتأسيس تزوير جديد يستهدف أقدم حضارة عرفها الإنسان..
لم ترتوِ غريزة النظام الصدامي الذي إتضح تحالفه أو تبعيته للدين الوهابي، من كل الدماء والإقصاء الممارس بحق أصل الأرض؛ فذهب إلى محاولة نسف موطن الحضارة وسببها، لإخفاء أي معلم يدل عليها مستقبلاً، إذ أقدم على جريمة "تجفيف الأهوار".
إنّ تلك الجريمة حاولت المضي بمشروع محو الإنسان العراقي وسلخه عن إرتباطه وجذوره، ويبدو إنه كان متيقناً من ذلك.. تحوّل الهور إلى حكاية، رغم حداثة عهد التجفيف، غير أن أجيال كثيرة لم تَرّ ذلك المعلم المقدس. القداسة التي وهبها أنبياء الله الأوائل لهذه الأرض النقية.
دماء كثيرة تزيد نقاء الأرض، فأهلها كرماء، لكنهم يثورون عندما يتعلق الأمر بكرامة الأرض. (الشروگ) سدنة الحضارة الأولى وحرسها الأمين، ومن هنا تأسس نضالهم الطويل.
بتلك الدماء وذلك النضال، إنتهت أيام آخر الطغاة، ولكن آثاره ومؤامرات أشباهه من البدو بقيت حاضرة، وما زالت داعش تمثل وجهاً جديداً من أوجه الحقد البدوي.
صفحة نضال جديد بدأت منذ سقوط ذلك الطاغية، ولعلها أكثر صعوبة من مقاومة الطغيان؛ فالمسؤولية أن يعيد (الشروگ) موطنهم وبيئته ويعرفوا العالم بقيمة الحضارة التي بنيت على هذه الأرض.
أراد البدو أن تتحول جنان سومر إلى صحراء قاحلة شبيهة ببيئتهم، ونجحوا ردحاً من الزمن، بيد أن العراق، يعود ومستمر بالعودة والصعود لمكانه الأقدم. العالم المتحضر بدأ يتصالح مع العراق، إدراج الأهوار على لائحة التراث، خطوة جديدة في طريق المجد العراقي.
مبروك عودة (الشروگ).
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha