▪مهند الساعدي
•• ربما تركنا الدكتاتوريات تعيش معنا بسلام وأمان مدة طويلة من الزمن ، تتمتع فيها بحالة من الكمون والخفاء ، يشبه كمون الأمراض السرطانية الخطرة ، فلا نعلم بها ، ولا نعاني من خطورتها ، إلا اذا حملها ألبيان رقم واحد ، او جاءت بها الانتخابات على حين غفلة .
حينئذٍ ، سنقضي ما بقي من اعمارنا ، وإعمار ابنائنا ، في معارضتها ، ومنابذتها ، ومكافحتها . وربما نسينا ونحن في ذروة المعارضة للدكتاتور الأول ، ان بذرة اخرى تنمو بيننا ، وديكتاتورية تتشكل بمعزل عن وعينا ، سنصطدم بها حال نجاحنا في في التخلص من الدكتاتور المعزول ، او المقبور على الارجح .
وفي هذه الحالة ، تصاب الحركة بحالة من الانفصام السياسي ، حين تجد نفسها ، معالجة للدكتاتورية ، ومصابة بها ، في آن معاً !
إن المتفردين ، والمتسلطين ، والمستبدين ، هم الوجه الأبشع للدكتاتورية . لكن ينبغي ان لا نغفل عن أن الخاضعين ، والمستسلمين ، هم الوجه الاخر لها ، وان كان اقل بشاعة ، وادعى للتعاطف .
لكن هل حقاً ان الأحزاب الأسلامية بدأت تعاني من ظهور ( دكتاتوريات حركيّة ) في تنظيماتها ؟
ربما تبدو الإجابة عن هذا التساؤل ضرورية اليوم ،لكنها ليست سهلةً على الإطلاق . إذ كيف يظهر في هذه الحركات السياسية الاسلامية ، التي تنضح أدبياتها الداخلية ، المستمدة من منظومة الفكر الاسلامي الاصيل ، بفكرة محاربة الظلم ، والعلو في الأرض ، والفرعونية ، وتنشد تعاليمها الاخلاقية قيم مثل العدل ، والانصاف ، والنصيحة ، والشورى ، والمساواة ، وان المسلمين سواسية كاسنان المشط ، يسعى بذمتهم أدناهم . كيف نتصور ان يبرز من بين ضهرانينا من يستبد ويستأثر ، كيف يعقل ان هذه الجماعة المؤمنة بالسلام ، والمجاهدة لنفسها ولعدوها ، قد وقعت في تحذر !
أنه تسلل من معسكر الأعداء ! لكنه على غير عادة المتسللين هذه المرة ، انه تسلل الى الصفوف الأمامية لا الخلفية كما هي عادة المتسللين . هو تسلل سلوكي ، وأخلاقي يخرق قواعد التنظيم .
والحديث عن الاستبداد حديث الامس واليوم ، وهو حديث لا يتنازل عن أهميته ابداً ، لانه يلامس مدمكاً حساساً في السياسة والاجتماع والاسرة والتنظيم . ولم يعطَ مصطلح الدكتاتورية حقه ، حين اقتصر استخدامه لفترة طويلة من قبل الباحثين ، في التعبير عن شكل من أشكال ممارسة السلطة ، ونوع من انواع نظم الحكم .
ولأن أوضح تجليات النزعة الاستبدادية لا تظهر إلا عند تولي الحكم ، وممارسة السلطة ، ولأن ما تراه الأمة في سلوك الحاكم قد لا تراه في غيره ، فان الكثير من مظاهر هذه النزعة المرضية تظل كامنة ، وخفية ، وخارجة عن حيّز التشخيص ، على المستوى النفسي ، والاجتماعي ، وفي التنظيمات المغلقة مثل الأحزاب .
ومن هنا تتضاعف الحاجة لممارسة الرقابة ، وتشديد النقد ، ووضع الكوابح والمعرقلات ، القانونية والفكرية والثقافية في طريق اي محاولة للتفرد . والعمل على قاعدة : نوسع مساحة النقد والرقابة ، لتضيق مساحة الزيف والمخالفة .
والحقيقة ان الانسان غير المتمرس حضارياً ، وغير المتمدن ، وغير المتدرب تدريباً مستمراً على العمل الجماعي ، يجد في طبعه ميلاً للانفراد ، والعمل خارج ضوابط الجماعة .
والحقيقة الاخرى الأشد مرارة ، ان الاعم الأغلب منا ،وفي عمق ما من أعماقنا النفسية ، واللاشعورية ، يكمن ( دكتاتور صغير ) ، ضامر ، كامن ، سرعان ما سيظهر ، وينمو ، ويتحدد حجمه ونوعه وخطورته ، مع ما سيكون لحامله من نصيب في المجتمع ، او موقع في الدولة ، او زعامة في الحكم . ومن هنا نجد ان الحاجة لمكافحة الديكتاتورية في النزعة السلوكية والممارسة الاخلاقية ، لا تقل أهمية ، ان لم تكن اهم من مكافحتها على مستوى الحزب ، أوالدولة ، أوالحكم .
لقد كانت هذه الموضوعة بالذات ، محل سجال مستمر في الفكر والتاريخ الاسلامي .
فحين نمت بذرة الاستبداد والاستئثار في سلوك بعض الولاة على امصار الدولة الاسلامية في القرن الاول ، وساروا في الناس على غير المحجة ، وقضموا المال قضم الإبل نبتة الربيع ، واتخذوا عُبَّاد الله خولاً ، ومال المسلمين دولاً ، تعالت صيحات بقية الصحابة والصالحين في التصدي لهم ، والإنكار عليهم .
في تلك المرحلة كان الخليفة عمر بن الخطاب يقول : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً !؟
وكأني بالسامع لهذه الصرخة يرد عليها : استعبدناهم حين رضوا هم بذلك . لقد وجدناهم أهلاً للاستعباد والإخضاع ، وفيهم بقية القابلية على العبودية فأستعبدناهم : هم رضوا بذلك .
لكن الامام علي بن أبي طالب (ع ) كان يوجه لهؤلاء خطاباً آخر ، بصياغة اخرى ، غير قابلة للرد او منتظرةً له ابداً ! ذلك لانه خطاب يتوجه مباشرة الى داخل الانسان ، ويخاطب بناء محتواه الداخلي : لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً . أي ؛ لا تَترك في داخلك مساحة تتوفر فيها القابلية أن يمارس عليها الآخر استبداده او ظلمه ، لانك قد تفقد حياتك قبل ان تتخلص منهما .
إن التصدي للدكتاتورية في بدايات ظهورها ، يعد طوراً مضنياً من أطوار مكافحتها ، لكنه - وبكل تأكيد - سيكون اقل عناءً وكلفة ً ، من طور اخر ، سنضطر فيه الى مكافحتها ، ومنابذتها ، بالاموال والنفس ، حين تستفحل الى حالة عامة على مستوى السلطة .
فتشوا عن دكتاتور الحزب ، تتخلصوا منه في الدولة . وسدوا عليه طريق الاستحواذ على التنظيم ، تضمنوا عدم استحواذه على الدولة .
لقد اقترنت اول حالات الأستئثار في الخلافة الاسلامية في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، وكانت اهم مقومات مشروع الاستئثار الأموي على يد عثمان تتمثل في أمرين :-
الاول / هو تولية الاقارب ، والأصهار، والعشيرة ، والاعتماد عليهم على حساب الانصار ، والمهاجرين ، وأهل السابقة في الاسلام ، والجهاد ، والهجرة .
والثاني / هو الاستحواذ على المال ، والاستئثار بالعطاء ، وتسخير الثروة لمشروع السلطة .
ومنذ ذلك الحين لا يكون اخطر على الحاكم من هذين الحالقين للدين : غواية الأهل والأقارب ، وتسخير المال السياسي .
هكذا يولد الدكتاتور الحزبي :
لكن كيف نتعقب بالنقد وجهين مختلفين لهذه الظاهرة في حركاتنا الأسلامية ؟ وكيف نعطيها التفسير الصحيح على طريق الخلاص منها ؟
أن من الظواهر الصحية في إدارة الحركة الاسلامية لنفسها إدارة ناجحة ، هي انها تفتش عن الطاقات ، وتكتشف المواهب والكفاءات ، ولا تهمل احراً من ابنائها ، إلا إذا اختار هو لنفسه ان يكون مهملا ً وخارج حسابات التنظيم ، عندما يكسل عن نشاطه ، او يفشل في اداء المهمات الموكلة اليه ، والملقاة على عاتقه . ان لكل عمل حجمه في العمل ، وله وزنه النوعي بين اخوته ، وعندما نقول حجمه ووزنه ، فان من الطبيعي الاختلاف والتفاوت في الطاقات ، والقدرات ، والامكانيات . وليس في ذلك مشكلة ، فان الطاقات تتكامل ، والجبل الكبير يتكون من الأحجار الصغيرة ، لكن المشكلة - كل المشكلة - تبدأ حين يتخلى الداعية العامل ، عن دوره ومساحة عمله ، مهما كانت صغيرةً ، ليتسنى لغيره التعدي عليها ، وتهميشه ، ومواصلة الطريق لبناء دكتاتوريته .
ان لكل دكتاتور اطوار يولد من خلالها ، يجب ان نتتبع تحولاتها ، ونراقب نموها ، لكي نكتب سيرة الدكتاتور بوضوح اكبر ، ما دمنا نكره ظهوره .
في بداية كل عمل ، يجتمع اهل الإيمان وأهل الاسلام وأهل الوطن ، ويقررون الخوض في العمل بمتطلبات إيمانهم وعقائدهم ورؤيتهم للكون والحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد . فيقول احدهم : تعالوا نؤسس حزباً ، او حركة ً ، او تنظيماً ، فيستجيب الجمع بعد مناقشات تطول وتقصر . ثم يجلسوا ليؤسسوا ويكتبوا فكرهم الخاص ، ونظامهم الخاص .
وكما ذكرنا ، فان هؤلاء العاملين ، طاقات مختلفة ، ومواهب متعددة ، وبينهم ما بينهم من المشتركات ، كما ان بينهم تمايزات ، واختلافات ، على مستوى الطاقة والتحمل والمزاج النفسي ، وتبعاً لذلك درجة الطموح ، وتقييم الذات ، والقدرات . انهم وان اتفقوا على الكثير ، لكن ذلك لا يعني انهم لن يختلفوا على كثير او قليل غيره . ومن الطبيعي جداً ان يطهر فيهم من يكون قادراً على العمل بطاقة اكبر ، ولوقت اكثر .
أن هذا الاخ ، سملأ مساحة العمل الأكبر ، ويكون انشط من غيره ، ويتصدى لاعمال متنوعة ، يفرض من خلالها وجوده على مفاصل العمل المهمة ، ويكون اكثر اطلاعاً على مجريات الأمور والعمل اكثر من غيره ، فيكون اكثر تماساً مع مقدمات اتخاذ القرار ؛ من معلومات ، وتقييم قدرة ، وتحديد مخاطر ، وعلاقات عامة مع الشركاء او المنافسين . سكون والحال هذه اكثر قدرة من غيره على المبادرة ، وتقديم الاقتراحات ، والدفاع عن وجهات نظره ، واختيار الحلول وتنفيذها . انه سيُصبِح متسلط على طريقة العمل كما يقال عادة ً .
لقد حقق لنفسه موقعاً متميزاً ، سيتحرك عليه بطريقة مميزة ، واستبدوا هذه الحركة طبيعية جداً ، إلى أن يبدأ سلوك ما ، بالتحرك معه لا شعورياً ، يدفعه نحو اداء جديد ، ينطلق به من وحي الشعور بأنه الاكفأ ، والأقدر على اتخاذ القرارات ، وحسم المواقف ، من دون حاجة للرجوع الى الجماعة ، والمشاورة مع الغير . وهؤلاء ال ( غير ) ستبدو صورتهم عنده مختلفة ، حيث ينظر اليهم على انهم غير كفؤين ، ولا يعرفون ، وهم يقررون بغير علم ، ويقترحون بدون معرفة . بينما صاحبنا يتعمق لديه الشعور في الاعتماد على الذات ، وامتلاك المفتاح الذهبي لكل المغاليق والازمات .
وربما قابل ذلك حالة من الاستسلام ، والاتكال من قبل الجماعة ، حين يشعرون ان الأمور تسير على ما يرام ، وان المؤمن كثير بأخيه ، وان السعيد من اكتفى بغيره ، وان الواجب الكفائي يسقط بعمل الفرد الواحد ، خصوصاً مع ما يقوم به صاحبهم من ، من تنظير ، وتحليل ، وتخطيط ، ومتابعة جادة ، اذا ما صممنا اليه حالة الثقة بين المؤمنين والدعم والنصرة والتولي .
هناك عامل آخر مساعد ، وهو احساسهم انه هو من سيتحمل مسؤولية الخطأ عند وقوعه ، وان قدرتهم على التنصل من الفشل ، اكثر بكثي من قدرته هو فيما لو وقع هذا الفشل لا سمح الله . أنهم سيعصبونها برأس الرجل الاول .
لكن بذرة السوء ، وعود الثقاب الذي ربما احرق الغابة ! سيبدأ بالأشتعال حين يطالب هذا الرجل باستحقاق عمله الدؤوب ، فيريد بذلك الامتياز .
وسيتخذ هذا الامتياز أشكال عدة ؛ منها :
- تنازل الأكثرية عن رأيها مقابل رأيه .
- التفرد ببعض القرارات دون مراجعتهم .
- الحصول على حصة الأسد في المناصب والمال .
- تقريب من يريد وابعاد من يريد .
- تصعيد من يوافقه وإنزال من يخالفه .
وغير ذلك الكثير ، مما يعمق الشعور في نفسه ، أنه القطب الذي تدور حوله رحى الحركة ، وانه اكسيرها النادر الذي تذبل من دونه الحركة ، وتمرض ، وتذوي ، وتموت .
فهو وحده الرأي الحصيف ، والفكر السديد ، والقائد الفرد الذي لا خُلف له ولا عِدل !
عندما تصل الظاهرة الى هذه النقطة الحرجة ، يدق جرس الانذار الحزبي متأخرا ً !
ستبرز بوادر المعارضة لنفوذ رجل الحركة الاول في داخل التنظيم ، وسيكتشف الجميع على حين غرة ، انهم مهمشون ، وان الحزب مختطف ، وان روحية العمل الجماعي ضعيفة ، وأنهم مهملون ، ومبعدون ، ومحرومون ، ومغلوبون على امرهم . سيقولون ان صاحبنا بيده المال والقرار ، ولا بد من إيقاف هذا التدهور ، وإجراء عملية الإصلاح ، التي ينطلق فيها الجديد من الافكار ، وتحشد لها المزيد من الانصار .
ثم يظهر من بين هؤلاء من يتطرف في الدعوة الى الإصلاح ، ويطالب بثورة من الداخل ، تتجاوز الإصلاحات البطيئة ، الى استهداف الدكتاتور ، والتصدي له مباشرة ، وتقليم اظافره الحزبية .
بذلك تأخذ الأزمة شكل اللعبة السياسية ، ويمارس الاحتراف السياسي الى ابعد حدوده ، وندخل في حمى المؤامرات ، والحياكات ، وتجري عمليات التدافع والإزاحة ، ويوقف حسن الظن ، وتسحق تحت الأقدام الكثير من المثل والأخلاقيات ، ويستعيد التاريخ نفسه في معارك تأويل الرأي ، والاستقواء بالداخل والخارج ، وتوظيف الطاقات المعدة لمواجهة الاخر ، في تصفية الحسابات مع الذات ، فتنطلق حملات تجميع الأرقام ، وتسجيل المواقف ، والمناكفة الإعلامية ، قبل الدخول الى قاعة اجتماع او انتخاب او مؤتمر .
والنتيجة ان واحداً من الطرفين سوف تتوجه نتيجة هذا الصراع ، وهو على الاعم الأغلب صاحبنا الذي يملك المال والقرار ، وتلتحق به أغلبية الرجال ، فهو قادر على ترويج نفسه بنفسه ، سواء أكان منشقاً ام منشقاً عليه ، فالنتيجة عنده واحدة : لكم حزبكم ولي حزبي .
وعند الإيذان بولادة الدكتاتور الاول ، ستنقسم الحركة على نفسها ، بين ناقم ونائم !
ناقم على الدكتاتور ، وضياع قيمة العمل الجماعي ، ونائم في احضان الدكتاتور بائع لقيمة العمل الجماعي بازهد الاثمان .
ولا يفوتنا التذكير ان هذا الدكتاتور قد يكون له من التاريخ الجهادي ، والعمل الحركي الاسلامي ، والتضحيات ، ما لا يقدر احد على حذفه او تجاهله او تجاوزه . لكن ليس ذلك هو الأهم . بل المهم ان نرصد سيرته منذ بدايتها ، وكما استعرضناها ، لنقف في مواجهتها قربة لله ووفاء للجماعة ، ورحمة به من مصير كل دكتاتور .
تنبه الى سيرة الدكتاتور ، ولا تهتم كثيرا بالنظر الى راسه ، فلا يمنع الدكتاتورية ان يكون راس الدكتاتور حاسراً ، او معقلاً ، او بالقبعة العسكرية ، او ربما العمامة السوداء او البيضاء .
هذه هي سيرة دكتاتور كان تحت الرماد ، وخرج من تحت الرماد ، فتلقفوه بالنقد يغفر الله لكم خطاياكم .
https://telegram.me/buratha
