أمل الياسري
"إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة" هاهو الطف قد أينعت ثماره، إيذاناً برحيل قرابين الحرية الى عليين، بأجساد يتداولها سفر خالد في كربلاء عام (61هجرية)، ليكتبوا بأبجديتهم الحسينية العنقاء مآثراً، ولتكتظ الألفاظ والضمائر حولها، لتصدح بنشيد إقتحمت البشرية أبوابه من كل فج عميق، وتلتقي عند رأس رجل يريد الإصلاح في أمة جده، فدماء كربلاء أخبرتنا حقاً بما تريد أن تُخبرنا.
ريح صفراء ممزوجة بالفزع والصراخ، وبقايا حريق في خيام الهاشميات، والدهشة ترافق وجوه الأطفال والنساء في البراري الموحشة، فلاحت الأقمار العلوية فوق الرماح، والشيب المقدس يداعب الرياح بصوت حسيني ظامئ غريب، ليخاطب قلب الحوراء زينب (عليها السلام): إحبسيه لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد، فسكنت أصوات حوافر الخيل الأعوجية، وعلت ترانيم العشق القرآني للشفاه الذابلات، وأمست مشاهد الرؤوس تُحيرنا.
(مَنْ وهب نفسه للدنيا، فلن تعطيه الدنيا إلا قطعة أرض صغيرة يدفن فيها، ومَنْ وهب نفسه لله سيعطيه الله جنة، عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين)، نعم كربلاء قطعة من الجنة أنجبت أمة حسينية، مهما إشتد أئمة الجور والضلالة على محو طقوسها، ومبادئها، وشعاراتها، فلم ولن يستطيعوا إماتتها، فعاشوراء الحسين مرغت أنوف الطغاة في وحل الهزيمة، ولن تستطيع سيوفهم أن تجُبرنا.
معركة الطف محسومة سلفاً، وقد يُعتقد أن النسوة المنكوبات في كربلاء سيفقدن كثيراً، وقد تعيش كل منهن حالة إنكسار، لكن أعظم ما حدث هو الإنتصار في الصراع المعنوي، الذي حققته تلك النسوة، فبقين في حالة مبهرة من التماسك والشموخ، والخطبة العظيمة التي خطبتها عقيلة الطالبين زينب (عليها السلام) وسط الحشود، إستطاعت تغيير الواقع، وهذه مواقف أبية بين السلة والذلة تُخيرنا!
قضية كربلاء وما جرى فيها من مصائب عظمى، ونتائج أكثر عظمة وخلوداً، منذ أربعة عشر قرناً، لم تكن لتُحيرنا، وتُخبرنا، وتُجبرنا، وتُخيرنا، إلا لأن الإرادة الإلهية شاءت أن تكون بهذه القوة والتأثير، لتصنع أمة تواجه الطواغيت على مدى التأريخ، فالقضية الحسينية أثبتت وبإمتياز إنسجامها التام مع مشروع السماء، لأن كربلاء لم تنتهِ مع العاشر من محرم، بل بدأت منه تماماً.
https://telegram.me/buratha