أحمد لعيبي
في ليلة شتوية من ليالي سامراء الشديدة البرد والحالكة السواد وبأقصى مدينة العلم اقترب مني شاب وسيم وجهه مليء بالسخام والتراب وبيده ابريق شاي بلا غطاء وباليد الاخرى يحمل بندقيته
وقال لي بصوت خافت (ما عندك جداحة ..شخاطه ..رمانه يدوية ..اي شي يشتعل مثل كَلب اخوك المحروك )!!
فقلت له ..لا والله خويه ما عندي اني ما ادخن ..
فقال لي ..((هنيال كَلبك..اني شارب باكيت جكاير ونص باكيت كطوف جكاير وهسة صاير مثل الجكارة محترك ومديوس بالرجلين ))
حاولت ان اسمع منه وان ادعه يتكلم معي بعفوية لكنه ادار وجهه وفاضت عيونه بالدمع ..
اخذت ابريق الشاي منه ووجدت اعواد ثقاب وخشبة يابسه اشعلناها ووضعنا عليها الشاي ..
وصمتنا وبقي احدنا يحدق بوجه الاخر دون كلام
حاولت ان اكسر الصمت وسألته عن مكان الشاي كي اضعه في الابريق فقال لي وهو يبتسم بمرارة (خويه قوري الجاي بيه بثل صارله ثلاث ايام نحط فوكه ونشرب وين اكو جاي مو زين عدنه شكر)..!!
كنا نسمع صوت انفجارات بعيده وقصف بالهاونات تضيئ سماء سامراء احيانا من شدة الانفجار...
سالني انت شسمك ..فقلت له احمد لعيبي من بغداد وانت شسمك خويه؟
فقال لي ...((انه سالوفة صرت بين الطوايف ..
طالب بكلية الطب مرحلة ثالثة ..ابوي مات واني بعدني طالب بالكلية وعافلي ام وخمس اخوات ..العوز أذاني كلش لو اني اشتغل واترك الدراسة لو امي واخواتي يخبزن واني ادرس ..
ردت احد يساعدني من هالناس مامش احد ..تركت الدراسة واشتغلت حتى نعيش ويوميه شغله حتى امي واخواتي ما يمدن اديهن ...
حبيت حب مال مخابيل وتزوجت البنية ورة قصة حب طويلة وبقينا سبع سنوات بدون اطفال ..!!
تدري شنو معنى تحب امراة بكل حواسك وتتمنى تحصل على ثمرة حب منها بمجتمعنا الجنوبي الذي يعيب ويشمت ويجرح المراة التي لا تنجب ...!!
اتفقنا نعمل طفل انابيب ولكن الحرب جاءت وتركت مبلغ العملية عند الاهل ليتصرفوا به والتحقت للقتال هنا ومرت الاشهر ونحن نؤجل العملية لنرزق بطفل ..
واذا بها تمر سنه والثانية وانا لا استطيع التوفيق بين عملية طفل الانابيب وبين البقاء هنا ..
هنا صمت صاحبي وبكى بصراخ ...تركته وانا اقلب النار حول الشاي لاني لا اعرف مالذي اعمله له ..
ثم اكمل كلامه وهو يبكي (اليوم زوجتي وحبيبتي اخبرتني بالهاتف وهي تبكي ان الدكتورة اخبرتها انها تأخرت كثيرا وكان لابد لها على اقل تقدير منذ سنة ان تأتي لتعمل التحاليل وتأخذ الادوية الخاصة للرحم والبويضات ...تدري استاذ احمد اني ما ضجت على روحي ضجت عليها لان اني سبب التأخير وحسيت بتأنيب الضمير خصوصا هي يتيمة وابوها شهيد وكان تريد طفل يعوضها عن ألم اليتم ...))
حاولت ان اخفف عنه لكن تخفيفي لم يسكن لوعة روحه المحترقة ثم قال لي (تدري شأتمنى هسة ..كون اموت وارتاح ..لو ارجع طفل زغيرون واصير بحضن زوجتي اللي شافت ضيم وياي وعوز وفقر وشماتة ..!!
امسكته من كتفه وقلت له خويه كول يالله ..اولا اني ما عرفتك منين فضحك وقال لي اني باسل من البصرة ام التمر اللي ما ضايك تمرها ...!!
ودعته وهو يقول لي تدري المعيدي من يحب الله والوطن وزوجته تطيح عليه طركاعة ...!!
فقلت له...شلون ..
فقال لي باجر اسولفلك شلون من نتشاوف ...
انسحبنا مع مجموعة من النازحين الى عمق مدينة سامراء وفي منتصف ظهر اليوم الثاني عدنا الى نفس المكان وكان معنا وفد طبي من بلد سألت احدهم عن عملية الانابيب فقال لي احتاج الشخص المعني اساله كي اجيبه وارشده للمكان الاختصاص لأجراء العملية ..
وصلنا الى مكان تواجد القوات وسألت عن باسل الذي لم اجده ..
فقال لي احدهم ..باسل استشهد صباحا عندما دخل على قرية لأنقاذ النازحين من اسر الدواعش واصابه قناص في قلبه ..!!
في يومها بكيت بحرقة ولكن بلا دمع ووجدت ابريق الشاي في مكانه الذي تركته به امس ..
ومكتوب على الطين قرب المكان...
(عندما اموت ستكبرين ياحبيبتي وتصبحين عجوزآ وستنسين الطفل..فأعذريني )..
#مذكرات
احمد لعيبي
https://telegram.me/buratha