قصة بطل من أبطال الحشد الشعبي المقدس. تشرفت بكتابتها -1-
كاظم الخطيب
نشأ الفتى حسين شيال حطاب حطحوط المنصوري في ناحية الطار، من سوق الشيوخ بذي قار العراق، كان الأكبر بين إخوته، وكان من مواليد 1994، عاش في كنف والده حتى الثانية عشر من عمره، حيث تذوقت شفتاه مرارة اليتم، وطعم الفراق، وأحس بثقل المسؤولية على كاهله الصغير، حيث أصبح فجأة أباً يحنو على إخوته بعد أن إعتاد هو على حنو والده عليه، نعم.. فقد إلتحق والده إلى الرفيق الأعلى، تاركاً إياه ليواجه مصيراً مجهولاً، ومستقبلاً ضبابياً لا تكاد تبدو له ملامح حتى .
أحس حسين المنصوري- وهو الفتى الغض الوديع- بالفراغ الكبير الذي خلفه غياب والده عنه.. حاول جاهداً أن يكمل مشواره الدراسي، لكنه لم يوفق لذلك؛ بسبب الحالة المادية التي أخذت ترسم ملامح العوز والحاجة عليه وعلى عائلته.. وعندما وصل مرحلة الدراسة المتوسطة، وفي الصف الثالث منها، إزدادت عليه الإلتزامات، وألحت عليه الحاجات، وكثرت عليه الطلبات، قرر حينها أن يترك الدراسة، وأن يبحث عن عمل ليوفر من خلاله قوتاً له ولأهله، وكانت وجهته لبلوغ مرامه، وتحقيق هدفه،هي محافظة كربلاء؛ لتوفر فرص العمل التي تعتبر نادرةً جداً في محل سكناه.
أخذ الفتى حسين يعمل بجد ونشاط ؛ كي يتمكن من الحصول على المال لسد إحتياجاته هو وعائلته، وأثناء تواجده في كربلاء، تعرضت البلاد إلى نكبة سوداء؛ بسبب تخبط حكومة البلاد أنذاك- تلك الحكومة التي تسببت في معاناته ومعاناة مئات الالاف من الشباب- والتي أسفرت عن سقوط المحافظات الغربية من البلاد، ومحافظة صلاح الدين، كما أصبح الخطر يهدد العاصمة بغداد وكربلاء والنجف وباقي محافظات العراق في الوسط والجنوب.
أصدرت المرجعية العليا في النجف( على مشرفها أفضل الصلاة وأتم التسليم)، فتوى للجهاد الكفائي؛ للدفاع عن الأرض والعرض، وحماية المقدسات، ودحر فلول داعش، وتحرير جميع الأراضي العراقية المحتلة.
حال سماع الفتى حسين المنصوري بفتوى المرجعية، ودعوتها للجهاد، أسرع ملبياً للنداء، ليلتحق بلواء 28 من سرايا أنصار العقيدة، وكان حينها جذوة من حماس، وكتلة من إشتياق، لمقارعة أعداء الإسلام، ولسان حاله يقول" إنها فتوى جهاد، وذلك يعني أنها فرصة إستشاهد، ولا ينبغي للفرص الخالدة أن تفوت".
إلتحق الشاب حسين في ركب المجاهدين، وتلقى تدريباً عسكرياً، وتوجه بعد ذلك إلى جبهات القتال، وعندما وصل إلى أرض المعركة، أخذ يتفحص السواتر، ويطالع الفضاءات، التي تكاد تنحسر بسبب رائحة الموت، ولون الدخان.
إستطاع المقاتل حسين أن يتميز بين رفاقه، بسبب بسالته، وإقدامه، وحرصه على أداء واجبه على أكمل وجه، وقد إكتسب خبرة ميدانية جيدة، ومهارة قتالية عالية، كونه قد إشترك في كثير من المعارك الشرسة والعنيفة، منها: معركة الصقلاوية ومعركة الضابطية، ومعارك: جلولاء، ومكيشيفة، وبلد، والمعتصم، وجبال حمرين، والفلوجة، ومعركة جزيرة الخالدية، وغيرها.
ذات يوم ومن فوق أحد المرتفعات، كان الشهيد ينظر كما الصياد الطامح لإقتناص فريسته، وإصطياد الشاردات من الدواب في البرية، فجأة لمح مجموعة من كلاب أهل النار- الدواعش- تتقدم بإتجاه سواتر المقاتلين من أبطال الحشد الشعبي ، وضع عينه اليمنى في عدسة قناصه، وأغمض الأخرى ، كاتماً أنفاسه، وصوب مستهدفاً أحد هؤلاء الجرذان؛ كونه يرتدي حزاماً ناسفاً، وأردف الآخر قبل أن يصل إلى كومة تراب ليحتمي بها، فيما تمكن الآخرون من الإنبطاح أرضاً، هرباً من إستهدافه لهم.
طالما إعتاد الإنتظار الطويل، وهو يستند على أكياس من تراب، بكل هدوء، ومن غير كلل أو ملل، فهو لا يملك شيئاً أكثر من الوقت، ولا يطمح إلى شئ كما القضاء على فلول داعش، وإستئصال شأفتهم من الأراضي العراقية.
لم يكن هدوئه هذا مصطنعاً، ولم يكن صبره عفوياً أو تقليدياً، بل كان ذلك كله عبارة عن إحترافٍ ومهارة؛ كونه قد إجتاز وبنجاح، دورتين قتاليتين في فنون التمويه والقنص، في الجمهورية الإسلامية في إيران؛ مما جعل منه رجلاً يجيد فن السكون، وأنغام الصمت، ورتابة الإنتظار.
عاد المقاتل حسين المنصوري إلى كربلاء؛ ليتم عقد قرانه، وسط فرحة الأهل والأصدقاء، وبعض من رفاقه المقاتلين، ولتكون الفرحة مضاعفة؛ فقد إختار أحد أيام عيد الفطر المبارك موعداً لعقد قرانه، وكان له ما أراد وسط أهازيج وتبريكات الجميع.
عند إنطلاق عمليات تحرير تلعفر، إلتحق العريس حسين بالجبهة، وقد تمكن حينها من القضاء على العديد من مرتزقة داعش، وذات ليلة وعندما كانت الريح تصفر في أزقة المدينة، وكان الظلام حالكاً، كانت عيون العابثين ترصد كل حركة أو إشارة لحياة، كي تمطرها بوابل من رصاص، أو بطلقة قناص، تكون كفيلة بأن توقف هذه الحركة، أو تعدم إشارة الحياة تلك.
كان حسين يراقب، بعيون نسر وقلب حمام، بشجاعة أسد وحنو راهب، لإنه بذات الوقت الذي يتشوق فيه إلى قنص قزم داعشي؛ كان يخشى أن تصيب رصاصته أحد المدنيين الهاربيين من دنس الإرهاب إلى أحضان حضيرة الفضيلة والشرف.
ساد الهدوء المكان، وضع المقاتل حسين راسه عل حافة جدار، وأغمض عينيه بعد تعب طويل، ليستيقض بعد ساعة مع الفجر، عندما كانت السماء تتوشح بزرقة تعد بولادة يوم جديد، فتح عينيه، ولكنه سرعان ما عاد وأغمضهما، وهو يحاول أن يطالع محيا أخوته وأحبته، وقسمات وجوههم، نعم.. إنه الحنين إلى الديار، الذي لا يمكن أن يقاوم سطوته إلا أشد الرجال عزيمة وأقواهم شكيمة، وهو الشوق إلى الأحبة الذي تهتز له كل القلوب؛ إلا من كان قلبه متعلق تعلقاً فطرياً بخالقه، ومن هو مرتبط إرتباطاً حقيقياً ومتفانياً بحب الوطن، وكان حسين شيال المنصوري ذلك كله.
إنتفض لينتصب واقفاً؛ وكأنه يقتلع جذور جسده من أرض الحنين، وثرى الشوق، مذكراً نفسه بلحظة سماعه فتوى الجهاد الكفائي، التي أعلنها المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني، وبالعهد الذي قطعه على نفسه؛ بقتال زنادقة الفكر، وبرابرة العصر، وخارجة العهر، ودواعش الكفر، ودفعهم خارج حدود البلاد، معللاً إياها- نفسه- بأنه سيعود يوماً بعد أن تضع الحرب أوزارها.
إنها أيام أربعينية الإمام الحسين(عليه السلام).. لم يكن البطل المغوار حسين المنصوري، يعلم بإنه على موعد مع الشهادة، وأنه لن يعود إلى دياره؛ ألا وهو مطوق بإكليل غار، وأنه سوف يزف إلى حيث يزف الشهداء.. فقد تم التحرك بالهجوم لتحرير قرية إم المصايد ، أثناء الإشتباك مع العدو، وبينما هو منشغل بقنص الهاربين من فلول داعش المنهار، فجأة أحس بثقل في جسده، وإعياء قد غشي كل مفاصل بدنه، وإذا به يسمع أصوات رفاقه.
- لقد أصيب حسين..
- يجب إخلاءه بأسرع وقت..
- وفروا لنا غطاءً كي ننقذه..
بدأت الأصوات تنخفض رويداً رويداً، خر شهيداً، لكنه لم يسقط إل الأرض، بل هي من إرتفع إليه، وهي تحتضنه، ذاكرة له حسن صنيعه معها، بحفظ كرامتها، وصيانة عرضها، وتطهيرها من دنس الكافرين.
إرتمى بين أحضانها، وهو يردد" الحمد لله الذي خصني بكلتا الحسنيين لا إحداهما، نصر ناجز أراه بعينَي، وشهادة أتذوق حلاوتها بشفتَي، وأغمض عينيه مقرراً أن لا يفتحهما إلا بجوار أصحاب الحسين.
https://telegram.me/buratha
