المقالات

نزفْتَ …وتنزفُ … وستنزف

2185 2019-03-07

حميد الموسوي

 

أي نحس تسرب في ذرات ارضك وقطرات مائك وطبقات سمائك ياعراق؟. فأختار لك هذا القدر المحتوم؛ وحشرك في هذا المصير المحكم؛مع ان معظم انبياء الله ورسله واوليائه اختاروا ارضك مسجدا ومرقدا ؛وان سماءك يصدح فيها نداء التوحيد وترانيم النواقيس ليل نهار ؛وان مياهك تسقي الزرع والضرع والطيور وتقام على ضفافها طقوس صابئتك المندائيين ؟!.

أي لعنة حلت على ساعاتك وايامك وسنيك وعصورك- مع مافيك من خيرات تكفي العالم – فطبعتها بالفقر والجوع والدماء والصخب؛وصبغتها بالحزن والشجن والنواح على مدار الزمن؟.

أي تأليفة من هيكل عجب شكل تركيبة قاطنيك ؟. هيكل تعشش فيه الحمامة جنب النسر؛ويربض الحمل الوديع جوار الذئب الكاسر ؟!.أي ارواح ممسوخة تلبست نفوسهم فجعلتهم: مختلفين..متقلبين ؛ متنافرين؛معاندين ؛ متشاكسين؛ حائرين؛ متطرفين؟. واي ارواح ملائكية سكنتهم فجعلتهم طيبين ..سخيين ؛ودودين؛ متسامحين؛ كرماء ؛غيارى؛ثائرين؟!.

ما قبل سنوات الميلاد كنت عاصمة امبراطوريات عظيمة قدمت للانسانية منجزات صارت السبب في ماوصلت اليه الان من رقي وحضارة وتطور وعمران : ابتكرت الحروف والكتابة والارقام؛قسمت الزمن ونظمت التوقيت ساعات وشهورا وسنينا ؛ شرعت القوانين والسنن والانظمة التي ظمنت حقوق الناس وعرفت المجتمع بحقوقه وواجباته ؛صنعت العجلة التي سهلت التنقل وتخفيف الاحمال وبوجودها سارت السيارات والعربات ومشتقاتها..علمت الدول بناء الابراج والزقورات والمعابد والجسور والجنائن المعلقة ورصف الشوارع وتصريف المياه وماتزال شواهدها لحد الساعة تتحدى الزمن ؛على ارضك صيغت الملاحم والاناشيد والتراتيل والترانيم ..رسمت اللوحات والايقونات ونقشت الجدران ..نحتت النصب والتماثيل ؛سكّت الرُقم والاختام والالواح.وعلى صفحات وجه دجلتك وفراتك واهوارك بنيت السفن والزوارق؛كل ذلك والامم تغرق في ظلام التخلف والجهل ؛وشعوبها تساق بعصي الذل والاستعباد يأكل بعضها بعضا.

وبعد سقوط امبراطورياتك العظيمة..بعد انكسار آشورييك وبابلييك وسومرييك صرت نهبا لموجات الفرس والمغول ؛صرت هدفا لأطماع المتوحشين وساحة لصراعاتهم؛ومن حينها والى قيام الساعة نزفت وجعا وارواحا وزرعا وضرعا…نزفت شبابا وثروات وعمرانا وتراثا؛ نزفت وتنزف وستنزف.

دخلك العرب المسلمون فاتحين بازدواجية تناقضية عجيبة غريبة:مؤدلجون بتعاليم الاسلام السمحاء :توحيد .ايمان..تواضع..عفو..تسامح..محبة..صدق ..امانة..احترام الاخرين ..حفظ العقود والعهود والجوار..تضحية..ايثار..التزام ..؛ومعبؤن بقساوة الصحراء: بداوة..غزو..غلظة..انفة..تكبر..حمية..قسوة. فكانت لهم خضرتك ومياهك وانسامك استراحة المقاتل ودار القرار.

وما هي الا بضعة اعوام حتى اشتعلت حروب الناكثين والقاسطين والمارقين لتتحول ساحة لحروب طاحنة : حرب الجمل ..تبعتها حرب صفين ..لحقتهما حرب النهروان؛الوف الرؤس المقطوعة وبرك الدم المراقة.اربع سنوات هي كل خلافة الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه الذي نقل مركز الخلافة الاسلامية الى كوفتك الحمراء..اربع سنوات لم يمهله المنافقون برهة ليقيم العدل ويحكم بالقسط وليصلح نفوسا شاهت وعادت لجاهليتها واوثانها بمجرد اغماضة عين نبيها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم .لم يمهلوه ساعة يلتقط انفاسه حتى قتلوه غدرا وغيلة في محراب صلاة الفجر وهو صائم رمضان !. وباستشهاد امام المتقين بدأت عصور الظلمات تخيم في ربوعك ياعراق . اجتاحك الامويون بوحشيتهم وحقدهم مدشنين تسلطهم على رقاب العراقيين بابشع جريمة عرفها تاريخ االعرب والمسلمين ؛جريمة اهتز لها عرش الله وافلاكه وسماواته.. اسخطت وابكت حتى الطيور ووحوش الغابات ..جريمة قتل سبط رسول الله الحسين وابنائه واخوته وصحبه ؛وسبي اخواته وبناته ذرية فاطمة وعلي ؛حفيدات الرسول الكريم على ارض كربلائك ياعراق . ومن يومها كتب على امة العرب الذل والهوان . ثم لتستمر طاحونة القتل والفتك واالبطش على يد جلادي بني امية :الحجاج الثقفي .. وزياد بن ابيه .. ونظرائهم طيلة ثمانين عاما تخللتها ثورات متلاحقة على ارض بصرتك وكوفتك الحمراء ياعراق:ثورة المختار الثقفي ..ثورة التوابين .. ثورة زيد الشهيد.. ومزيد من القتلى والدماء..والجوع .

وكأنك على موعد مع الحروب والدماء ؛وكأن خارطتك رسمت بالدماء؛ واعدت لاحداث جسام؛وكأن ناسك سلعة تحت الطلب و جنود احتياط مدربون جاهزون للرماح والسيوف والدروع والنبال ..فهاهي ثورة العباسيين تطيح بدولة بني امية ومروان انطلاقا من كوفتك وبصرتك ياعراق وحطبها شبابك وثرواتك؛وهاهي امبراطوريتهم تتخذك عاصمة لتواصل غزواتها وفتوحاتها وبشبابك وثرواتك .وبينماصرت قبلة للانظار وصارت بغدادك قطبا للعلوم والاداب لم يجن اهلك غير الجوع والعوز والدماء وسياط جامعي جهود فلاحييك وحرفييك ومصادري اتعابهم وشقائهم ليتنعم الخلفاء والامراء وحاشياتهم بين جواريهم وغلمانهم ودنان خمورهم ، وخلال قرون حكمها الخمسة كانت النكبات متلاحقة والثورات متواصلة لعل ابرزها ثورة الزنج وحصار البصرة التي استمرت مشتعلة ثلاث عشرةسنة؛ قتل فيها الالوف ومات فيها الالوف جوعا؛ واضطر الناس المحاصرين الى اكل القطط والكلاب والزواحف… واكلوا حتى الموتى !.

ثم لتجتاحك موجات المغول والتتار الهمجية فتحيل دجلتك الخالد ضفافا حمرا واخرى زرقا .. دماء ابنائك وحبر مخطوطاتهم وتراثهم الثقافي .تعقبها موجة بني عثمان ليجثم ولاتها وسلاطينها على رقاب اهلك وبيادر حقولك وغلال بساتين نخلك وثمارك مشيدين امبراطويتهم الدموية لاربعمائة سنة عجاف مستعبدين ناسك بخوازيق جندرمتهم المتوحشين وفرمانات ولاتهم وسلاطينهم العتاة؛ختموها بمذبحة ابنائك الاشوريين التي ابيد فيها الالوف منهم في مذبحة ( سيفو )في ابشع صور التنكيل والبطش سنة 1914 .

استبشرت ياعراق – يائسا مرغما – بدخول الانكليز؛مخدوعا بادعائهم ( محررين لا فاتحين ) لتفاجأ بسياساتهم الاستعمارية التي اضطرت شعبك لثورة العشرين؛ وانتفاضة تتبع اخرى ليبدأ عهد المشانق والنفي والزنزنات ونهب التراث والثروات؛وكانت ابشع جرائمهم ابادة الاشوريين في قرى( سميل )سنة 1934 ويستمر نزفك وفقرك وظلامك .وتطوى سني الانكليز الاربعين بثورة 14تموز 1958. اربع سنوات فتيات لتلتقط انفاسك؛ محطة استراحة واعدة بالحرية والعمران والامل مع ما شابها من الاضطراب والفوضى وحبال المشانق ورائحة الموت والدماء؛ لتحل بعدها ثالثة الاثافي ام الفجائع انقلاب حزب البعث سنة 1963..واربعون سنة عجافا سودا ابتدأت بقتل زعيم الثورة النزيه ورفاقه وهم صائمون رمضان ورميت جثثهم في نهر دجلتك الحزين ؛ومسلسل جديد من التصفيات والثارات .. القتل ثم القتل ثم لقتل ..على الشك والشبهة والظن .. مقابر جماعية للاحياء ؛مجزرة جديدة للمسيحيين في (صوريا)؛ابادة قرى (حلبجة) الكردية بالسلاح الكيمياوي .. ثرامات اللحم البشري ..احواض الاسيد ؛ القتل والابادة الجماعية ..حروب عبثية مع ايران دامت ثماني سنوات عجاف حصدت مئات الالوف من شبابك ؛وبددت ما تبقى من ثرواتك،ثم تتبعها حرب جديدة واحتلال الكويت والصدام مع التحالف الدولي ؛والوف اخرى من ارواح شبابك ؛وتدمير كامل لجيشك وسلاحه ولعمرانك وبناك التحية ؛ثم لتنفجر انتفاظة الجنوب والوسط والتي كانت ذريعة ليصب النظام الخاسر جام غضبه على تلك المحافظات فيقصفها بالطائرات والصواريخ ومدافع الميدان فيبيدها سكانا وعمرانا ؛ثم لتبدأ ماكنة الموت والجوع والفاقة نتيجة الحصار والعيش في كابوس حكومة المنظمة السرية؛حكومة الرعب وكتم الانفاس..حكومة جذ الالسن وصلم الاذان وقطع الايادي والارجل والرؤوس ؛احالتك سجنا كبيرامعزولا يستحيل الفرار منه ويصعب العيش فيه .

وكما ظننت بالانكليز خيرا وخابت ظنونك ياعراق؛خيب ظنونك الاميركان(المحررون) المحتلون من جديد؛ ازاحوا حكومة المنظمة السرية وبطشها وتجويعها في 2003 واستبدلوها بحكومة الفوضى الخلاقة والفساد المالي والاداري. ودوامة جديدة من الاضطراب ؛ خمسة عشر عاما من تفجيرات المدن وهدم عمرانها على رؤوس سكانها طالت الاسواق والمتاحف ودور العلم والعبادة ومراقد الانبياء والاولياء والمساجد والكنائس والمستشفيات؛موجة مغولية تتارية عالمية تحت مسمى الارهاب اجتاحتك ياعراق ؛كانت ابشع صورها مذبحة كنيسة النجاة في بغداد 2010 والتي قتل فيها العشرات من الشباب والشيوخ والنساء والاطفال وهم يؤدون صلاة العيد . والابشع منها مجزرة ( سبايكر ) الطائفية التي تم فيها ذبح اكثر من 3000 آلاف شاب عراقي من محافظات الجنوب بدم بارد سنة 2014 ..ومذبحة البونمر التي قتل فيها المئات في محافظة الانبار .. وسقوط مدينة الموصل والرمادي تحت رحمة الارهاب .. والوف الارامل واليتامى والمهجرين ..وسيول الدماء التي سقت كل محافظات العراق ؛كل ذلك جرى على يد الدواعش آلة الاميركان التنفيذية معززة بدعم عربان الخليج وحواضن الذين فقدوا امتيازاتهم؛ابادة وسبي الايزيديين والشبك والمسيحيين وبيع النساء والاطفال في سوق النخاسة .. تدمير البنى التحية والعمران ونهب المصارف .موجة همجية مدعومة اميركيا واسرائيليا وخليجيا كادت ان تمحو العراق من خارطة العالم وتعيده كهوفا مظلمة وخياما بالية لولا فتوى الجهاد الكفائي التي اطلقها المرجع الكبير السيد علي الحسيني السيستاني في الرابع عشر من شعبان عام 1435هجري والموافق ليو 13 حزيران عام 2014 ولباها كل شباب العراق على اختلاف قومياتهم واديانهم ومدنهم مؤسسين حشدا شعبيا عقائديا ارعب كل قوى الشر معاضدين جيشهم الغيور وشرطتهم الوطنية ليسحقوا موجة الدواعش ويسقطوا اهداف اميركا وذيولها الخائبة . وها هي خمسة عشر عاما تمر على تجربتك الجديدة بكل مآسيها ياعراق ؛نعم دحرت قوى الشر وانكفأت مكسورة مخذولة لكن معانات اهلك مازالت كما هي ..وهمومهم حسرات متواصلة :مسؤولون لصوص فاسدون ..حكومات خائبة فاشلة ..تدخلات خارجية سافرة .. وخيبات تجر خيبات . ومع كل ما استجد من ثروات ارضك المعطاء .. ومع كل ما حصل في العالم من تطور انساني في جميع الحقول في قرن البشرية الحادي والعشرين … وبوجود ميزانية انفجارية ؛استمر نزيفك وجوعك واضطرابك ياعراق..وسيستمر .

كأننا ندور بك وتدور بنا – سكارى .. حيارى – في حلقة مفرغة رهيبة مجنونة ؛ودوامة عاصفة مالها من قرار.

تيهٌ خارج حدود الزمن والخيال والتصور ..تيه ارحم منه تيهُ بني اسرائيل في صحراء سيناء.

وكأنها اللعنة .

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك