حلا الكناني
تقع أبصارنا في كل مكان نبرحه على واقعٍ بات مريراً، وطفولة ابتاعت نفسها للتشرد والضياع بإرادة مسلوبة، وراحت تتخذ من السعي وراء الأشخاص والمركبات لعبةً لها، لتُريح جثمانها المُنهك في أعقاب الليل على ضياع يسلبها أي معنى لكلمة إنسان، ثم تعاود كرتّها، وكأنها غدت آلات ممكننة يديرها وحوشٌ أباطرة.
أترى ما الذي أحال تلك الطفولة البريئة إلى رجولةٍ كهلة؟ وما الذي دعاها لتسلب نفسها دفء الأمومة وحنوها؟ أتراها تلك الأيام النحسات التي عصفن بها فوجدت نفسها يتيمة على أبواب الطُرقات؟ أم تراها وجدتها صغيرة لأنثى حيوان تداركها الجوع فاقتاتت على صغارها؟ أم إنها أبصرت النور فأسّرها، ولما ادركت زيفه آثرت العودة لظلمتها؟
كلنا يعرف ان الحياة جميلة بزهوتها، ولكن تلك الطفولة ما عرفت سوى أنها بداية لموتها، و ما نعرفه ان الحياة تتبعها ميتة واحدة، وهذه الأرواح تموت في يومها ألف مرة أو ما يزيد، وتعاني صرعة موت بطيء يشلّها من دواخلها، فميتة عقل، وميتة جوارح، وميتة جسد، وميتة مشاعر، وهل منّا من يُطيق أي من ذلك؟ فكلنا راح يتذمر ، ولا يُرضيه واقعه،وإن كان نعيماً مقيماً، وتلك الطفولة تقنع بشيءّ من سدر قليل قد لاتطاله أيديها.
كفانا رقصاً على جروحها، وسخريةً بواقعها، وإعراضاً عن أحقيتها، وما لنا والاستعلاء، والغرور، وكلينا مخلوقَين من نطفة من منيًّ يُمنى، وسنلاقي ذات المصير، ونعود إلى ما تحت الثرى، لتصير آخرتها جنة المأوى، ونصير إلى جهنم، وما أخفى.
ننامُ قريري العين، وقد نحت الجوع والحرمان تضاريساً على جبهتها، ونستريح على أريكة و التراب مفترشها، ونستنشق النسيم العليل،و هجير الحر يكويها، فأي مفهوم للعدالة مؤمنون به نحن؟
رضينا أن نكون قضاة لا محامين، ورضينا أن نكون دعاة لا متهمين، وكانت تلك الطفولة البئيسة المعدمة المتهم الوحيد الذي لانخشى سطوته، ولا نهاب حيفه، ولكن شئنا أم أبينا فتلك الطفولة ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وبها تُرتسم حروف معنانا، وبها تُخطُّ صفحاتنا، فإن أردنا أن ننهض فبها، وإن أردنا أن نعلو و نسابق الأزمان، فلنلمّ شتات تلك الورود المتناثرة في الشوارع والأزقّة، باحثة عمّا يُبقيها على قيد حياة فارقتها الحياة، ولنزرع في أعماقها الأمل الذي ما عرفت إلا ضده، ولنُغذي عقولها ونسقيها بأكسير العلم والمعرفة، لنشمّ رحيقها، ولننعم باكتمال أنسانيتنا التي لا تكتمل الابها، ولنذقها الشهد بعد طول العلقم، فهنيئا لكل من أحيا نفساً بعد تهالكها، وسخطاً لكل من قتل نفساً لأنه قتل الناس جميعها.
https://telegram.me/buratha
