محمود الهاشمي
غالباً ما يتم التعرض الى سؤال (لماذا تصر إيران على عدم التفاوض مع الولايات المتحدة)؟
الذين يطرحون هذا السؤال، لا نشكك كثيراً في سؤالهم ودواعيه و نرى انه سؤال يتضمن الكثير من الواقعية ضمن (قانون المصالح) الذي يحكم السياسة الدولية، باعتبار إن أمريكا (دولة عظمى) ولديها علاقات واسعة مع دول العالم، وهي المتقدمة اقتصادياً وعسكرياً على الدول الأخرى، ولديها الكثير من الإمكاننيات التي تغري الكثيرين للتفاوض معها والحصول على مجموعة امتيازات!! .
وما يساعد هؤلاء على السؤال أعلاه ان واشنطن مافتئت تعلن على لسان مسؤوليها إنها (جاهزة للتفاوض مع إيران ودون شروط مسبقة) الى الدرجة التي أعلن فيها وزير الخارجية الاميركي يوم الخميس في مقابلة متلفزة(أنا مستعد للذهاب الى طهران للتفاوض)
الدول (الموقعة) على (الاتفاق النووي) مع إيران لم يظهر على لسان مسؤوليها من يحث إيران على عدم (التفاوض مع أمريكا) بما في ذلك الصين وروسيا) بل البعض من دول أوربا حملوا رسائل القيادة الأمريكية الى إيران مثل فرنسا وردت الصحف الإيرانية يومها ( هي ذاتها أفكار أمريكا باللغة الفرنسية) أذن، لا موانع من ان تنخرط إيران في مفاوضات مع إيران وفق تساؤلات الآخرين، وقد يعتقد كثيرون "إن ذلك سيكون وسيلة لتهدئة المنطقة، والتخلص من الأزمة"
الأمريكان، في كل دعواتهم لم يوردوا (الاتفاق النووي) الذي كانوا هم جزء منه، وكل ما ورد عنهم أنهم انتقدوا (الاتفاق) واعتبروه لا يلبي طموحهم وفيه نقص كثير، لكن الذي وجه سؤاله الى إيران (لماذا لا تفاوضون الأمريكان)؟ لم يتجرأ ان يسأل القادة الأمريكان (لماذا تصرون على عدم، احترام الاتفاق النووي وقد انسحبتم منه)؟
ليس هو الاتفاق الوحيد الذي انسحب من الأمريكان في ظل حكومة ترامب، بل هناك عشر اتفاقيات لهم مع العالم قد نقضوها، واعتبروا إن سياسة من سبقهم من الرؤساء كانت (خاطئة)
الاتفاق النووي (5+1) دام التفاوض فيه ثلاثة أعوام دخل فيه الإيرانيون في تفاوض معقد بحيث إن البند الواحد يترجم الى عدة لغات بما في ذلك (الفارسية) حتى لا تكون فيه نافذة لمشكلة لاحقة، وكانت فيه (الامتيازات) موزعة بين أعضاء الاتفاق وبين الجمهورية الإسلامية في الاستثمارات في شؤون الطاقة والبناء والأعمار وغيرها، وان يتم رفع العقوبات أو الحصار على إيران تدريجياً..
كثيرون لا يفهمون سبب تنصل أمريكا عن اتفاقياتها الدولية، بما في ذلك اتفاقية (المحيط الهادي) ويرون إن ذلك سلوكاً غريباً منها لان العالم سيفقد ثقته بها كدولة (عظمى) من المفروض انها لم تتخذ قراراتها إلا بعد أمعان وتمحيص ولديها من مراكز الدراسات والاستشارات ما يصعب إحصاؤها..
إيران تفهم معنى انسحاب أمريكا من (الاتفاق النووي) ولديها تفاصيل عن الانسحاب، وتدرك إن (الانسحاب) لا يقع في بعده (الاقتصادي) ولا (النووي) ففي البعد الاقتصادي قد ضمنت الكثير من الامتيازات لشركاتها في المشاركة في استخراج النفط والغاز وغيرها..كما ضمنت إن إيران لا تفكر بإنتاج (أسلحة نووية) لسببين الأول إن قيم الإسلام تحرم إنتاج مثل هذه الأسلحة (المدمرة) والثاني إن (الاتفاق النووي) يضمن رقابة دائمة على منشآتها النووية للاستخدام المدني.
تريد الولايات المتحدة إن تضيف (ملحقاً) للاتفاق النووي يتضمن تحديد (برنامج الصورايخ البالستية)، وكذلك تنازل إيران عن عمقها الاستراتيجي في المنطقة (المقاومة)!
أمريكا تراهن على (عقوباتها ضد إيران)، وإيران تراهن على (صبرها الاستراتيجي).
على الرغم من قسوة (العقوبات)التي امتدت على مدى أربعين عام من عمر الثورة الإسلامية، إلا أنها حققت منجزاً كبيراً لإيران، بحيث تحولت أرضها الى حقل لإطعام شعبها، والى مصنع لسد حاجياته، والى مؤسسة سياسية أنجبت العشرات من الأسماء والعناوين الكبيرة، كما أنها مؤسسة دينية توزعت عقيدتها على مساحات كبيرة من العالم، فكانت منبراً ضد الظلم ومقاومة لمقارعة الاستكبار وأعوانه، كما منحت (الثقة) لأهل الأرض في التحرر من الاستعمار والدكتاتورية، في وقت كان انهيار الاتحاد السوفيتي قد خلق إحباطا لدى العديد من الشعوب. .
أمريكا لم تستطيع إن تحقق أهدافها في مواجهة (الصبر الاستراتيجي) الإيراني، فالشعب الإيراني اكتشف (لعبة) أمريكا في الدعوة الى (الحرية) و (اللبرالية)، وخير مثال له، حجم الدمار والفوضى إلذي عم دول(أوربا الشرقية) بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وهاهم شتات توزعوا على الأرض، وارخصوا كل شيء من اجل لقمة العيش، فيما كان (الربيع العربي) الذي رعته أمريكا عنوانا آخر للشعب الإيراني، وهو يرى إن (التظاهر) أنتج حكومات ضعيفة واقتصاد منهار، وشعوب ألقت نفسها في البحار هروباً من ضنك العيش وغياب الأمن.
كانت تتوقع أمريكا ن مجرد أن ترفع من منسوب إعلامها ضد إيران، لتهييج الشعب كي يسقط حكومته ثم دولته وكانت قد أعدت سيناريوهات عديدة اقلها تقسيم البلد وفق المبدأ (العرقي) و (الطائفي) فواجهت شعباً يدرك مخططاتها وبدلاً من إن يعلق أماله وطموحه على (الوهم) الأمريكي تعلق بدولته ودخل ساحة النزال، وكانت مراهنة (فطنه) حيث اسقط الهيبة الأمريكية عبر إسقاط طائرتها المسيرة، واستخدام مبدأ(الناقلة بالناقلة)..
المعركة مع الخصم تحتاج الى ساعة (وقفه) كما يقول الإمام علي (عليه السلام) والى ثبات كما أوصى ولده محمد بن الحنفية قبل المعركة ( تدْ قدمك في الأرض تزول الجبال ولا تزول، وانظر الى آخر القوم ثم اغضض الطرف)
الولايات المتحدة أدركت إن منطقة الشرق الأوسط لم تعد من أولوياتها كما قال (ترامب) فراحت تتنازل عن أرقامها الواحد تلو الآخر، وقد بدأ التنازل، في أول ردة فعل على احتراق الناقلات في الفجيرة حيث كانت تعتقد دول الخليج وأصدقاء أمريكا إن ذلك يكفي إن يكون سبباً لضرب إيران !! فجاء الرد الأمريكي باهتاً (لا نتهم احد ولدينا شكوك بإيران) ثم تجلي (التنازل) الأكبر في الرد على إسقاط الطائرة المسيرة الخ ..
أن أهم مشكلة تواجه أمريكا عند انسحابها من منطقة الشرق الأوسط والتوجه نحو(المحيط الهادي) حيث التنين الصيني، هو النفوذ الإيراني بالمنطقة، فقد أصبحت لها ثوابت ودعامات عقائدية وفكرية وجهادية، و التخلي عن (المنطقة) يعني خسارة الأصدقاء بدء من إسرائيل ثم دول الخليج و الأردن ومصر وغيرهم، ولكي تطمئن أمريكا على هؤلاء (الأصدقاء) يلزم إيداعهم في (أيدٍ أمينة) فوجدت إن التفاوض مع إيران وان تعيدها شرطياً على المنطقة كما في عهد الشاه مقابل ضمان مصالحها ومصالح إيران، فجاء الرد (سلباً) ..وبدلاً من إن تضعفها في المحافل الدولية اصطدمت بإرادات مختلفة بالضد من توجهاتها , فيما ليس من بين (أصدقائها) من يتكفل بالمنطقة فقد حاولت مع (تركيا) وفشلت لأسباب يطول ذكرها، وأرادت من (روسيا) أن تكون حارساً لمصالحها مقابل حزمة من التنازلات وقد فشلت .. بل وجدت إن روسيا قد اكتشفت ضعفها وهزيمتها بالمنطقة وعملت على تحريض الاتحاد الأوربي للانخراط معها في الشرق الأوسط، ولكن لم تحصل سوى على (بريطانيا) التي فشلت في أول اختبار لها بـ(حرب الناقلات).(أمريكا أدركت إن جميع محاولاتها في المنطقة فشلت، مثلما أدرك (أصدقاؤها) ذلك، وهم وان اكرهوا للانخراط في مشاريعها بالمنطقة مثل (صفقة القرن) ومؤتمر (وارسو) والدعوة الى (تحالف عربي) و (وورشة البحرين) ثم أخيراً الدعوة الى (مؤتمر) يضم (65) دولة لغرض (حماية امن الخليج) وهذا ما جعل السياسة الأمريكية في (خبط عشواء) بحيث لا يمكن تقييمها لدى أصحاب الفكر سوى انها (فوضى).
دول الاتحاد الأوربي، وروسيا، والصين، ودول عديدة في العالم وان كانت أحيانا تبدو (متحمسة) لحل (الأزمة) بين إيران وأمريكا لكنها تطمح إن تُهزم أمريكا بسبب سياسة ترامب التي باتت ترى في الاتحاد الأوربي مجرد ثقل مثالي غير قادر على مواجهة (الصين) كما انتفت الحاجة له بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فهاجم ترامب (حلف الناتو) واسماه بـ(القديم) وبات يطالب دول الاتحاد الأوربي بدفع المال مقابل الحماية،كما إن دول الاتحاد الأوربي باتت ترى في علاقاتها مع روسيا والصين طريقاً لحماية وضعها الاقتصادي فأمتدت سكك الحديد الى اوربا وصولا الى عبور المانش نحو بريطانيا ..
- الصين و إن لم تتدخل كثيراً بـ (الأزمة) بين الولايات المتحدة وإيران لكنها تنتظر إن تتورط أمريكا بإيران، لتوفر دعما لإيران لإطالة الحرب واستنزافها، والعمل على هزيمتها من المنطقة الملائ بالاحتياطي النفطي والغاز، وسوقاً جيدة للبضائع الصينية، فيما كان موقفها واضحاً في المحافل الدولية للتصدي لأي مشروع ضد إيران.
روسيا تطمح إن تثأر لهزيمة الاتحاد السوفيتي وان تكون الحامية للمنطقة والأول بتصدير الأسلحة، والهيمنة على المواقع الإستراتيجية.
هذا (الأمر) تحسسته أمريكا لذا قللت من الضغط على أوربا خشية الإفلات من مداراتها، وانفردت ببريطانيا بعد عزلها عن أوربا، والسؤال :- لماذا لا تتنازل إيران عن عمقها الاستراتيجي والسماح بمناقشة برنامج الصورايخ البالستية؟
الجواب : إن هذا ( العمق الاستراتيجي )هو الذي خلق (معادلة) التفوق على أمريكا عبر سلسلة من الانتصارات التي تحققت في سوريا والعراق واليمن ولبنان و فلسطين، وان التنازل عنه يعني التنازل عن (سلاح التفوق) الذي قاومت فيه الجمهورية الإسلامية خصمها العنيد (أمريكا)، كما إن مناقشة برنامج الصورايخ النووية الذي سيجعل إيران بعيدة عن دعم (عمقها الاستراتيجي) وضرب المصالح الأمريكية حيث وجدت فيما لو كانت (المنازلة العسكرية )
أي ان أمريكا تحاول إن تجعل من إيران جسداً بلا اذرع كي تفرغه من مصادر قوته ثم تهاجمه, كما فعلت مع العراق ودول اخرى بالعالم !!
إن تصريح ترامب (الأخير):- (لن نكون شرطياً في مضيق هرمز لحماية السفن السعودية والصين واليابان) يمثل عنواناً كبيراً للهزيمة الأمريكية في الشرق الأوسط، وحين نرجع الى التصريحين السابقين لترامب الأول (لم يعد الشرق الأوسط من أولوياتنا) والثاني (لسنا بحاجة إلا القليل من نفط الخليج) ونربطها بالتصريح الأخير نكون مطمئنين إن إيران إن وافقت التفاوض مع أمريكا، فستكون المفاوض الأقوى مع دولة مثل أمريكا وبذا يعد انتصاراً للإسلام ولإرادة الشعوب الباحثة عن الحرية.
https://telegram.me/buratha