محمود الهاشمي
لم يكن الاعلام يوماً بالغائب عن تاريخ الامم في كل مراحلها، بل بقيت المهنة التي تلعب دوراً في صناعة الراي وتوجيه بوصلة السياسة والاقتصاد او غيره من شؤون الحياة الاخرى، والالماذا كان الملوك والامراء يجزون الشعراء والكتاب بالعطايا، باعتبارهم الوسيلة التي من خلالها يتم التعريف بالشخصية الحاكمة وادارته للسلطة، ورب بيت شعر كان سببًا لحرب طويلة او سبباً للسلم.
وفي ظل التطور الهائل لامكانيات وسائل الاعلام المختلفة التقليدية والجديدة، تعاظم دور الاعلام في التعامل مع الازمات بشكل خاص، واصبح من الاهمية بامكان الالتزام والاستناد في المعالجات الاعلامية للازمات على القواعد والاسس العلمية لادارة الازمة اياً كان مجالها من جانب القائمين بالاتصال (اعلاميين او سياسيين او دبلوماسيين او مسؤولين او غيرهم)...
ولما لم يكن التعتيم او الصمت على الازمات مهما تفاوتت حدتها او حجمها، فربما كان بالامكان من قبل السلطات المركزية ان تحجب الكثير من الازمات وعدم اظهارها الى الاعلام او العامة، حتى تتمكن من القضاء عليها او تحجيمها ولذا فان الكثير من اسرار الانظمة السابقة بقيت قيد الكتمان حتى تم كشفها في مراحل لاحقة.
اذا كانت وسائل الاعلام في النظام البائد محصورة بيد السلطة، فهي المالكة لها، والمهيمنة على ادارتها و افكارها فان العراق شهد تطوراً كبيراً في وسائل الاعلام بعد عام 2003، الى درجة صدور (200) صحيفة ولم يصمد منها الا القليل، فيما بلغ عدد القنوات الفضائية المحلية بما يتجاوز المئة، ناهيك عن السوشل ميديا والفضاء الافتراضي وغيره..
وبالقدر الذي تزداد وتتحرك وسائل الاعلام وتتفاعل مع الاحداث وتجعل المواطن ينشد لمتابعتها، فان (فوضى الاعلام) سيشكل خطراً على مستقبل البلد ويجعله عرضة للازمات والانفعالات واضعاف ارتباطه بتراب وطنه وشعبه واعتماده على وسائل اعلام (مغرضة) تشوش عليه وتبعده عن مواطن (الحقيقة).
المشكلة التي نعاني منها في بلدنا (العراق) في قضية الاعلام وادارة الازمات، تكمن في امرين الاول ان اغلب وسائل الاعلام في بلدنا ملكُ للاحزاب السياسية الحاكمة، وهذه (الاحزاب) لاتملك مشروعاً وطنياً مشتركاً ، فانعكس ذلك على الاداء الاعلامي رغم سعته وتعدد مصادره، وفقد البعد الاستراتيجي، فمرة يحلق فوق الازمة دون الدخول في شيئياتها، ومرة ينغمس بها ويفقد طريق ادارتها !!!...
وبالمقابل فان المواطن، عندما تشتبك عليه الامور، فالمفروض ان يجد وسيلة اعلام (مقربة من الدولة)، تجيب عن بعض تساؤلاته ولكن هذه "الوسيلة" التي هي (شبكة الاعلام العراقي) فقدت قوة تاثيرها مع تعاقب الايام وباتت الاقل "متابعة" من الاوساط العامة لاسباب يطول شرحها، ولكن باختصار اصبحت جزءاً من "فشل الحكومات المتعاقبة" ومفهوم (المحاصصة)!!..
ان الغائب الاكبر من جميع وسائل الاعلام العراقية (المشروع الوطني) مما سهل لخصم العراق ان يهيمنوا على ادارة الازمات في البلد، بل ويفتعلوا (الازمات) ثم يديرونها!!..
لنضرب مثلاً على فوضى الاعلام بقضية قريبة وهي(تلف 7 مليارات دينار عراقي) جراء تسرب مياه الامطار الى خزينة مصرف الرافدين الحكومي!!..
لقد اشارت قضية تلف هذه "الاوراق النقدية" الامور الاتية...
1-الوسط الثقافيي اعتبر ان غرق هذا الرقم الكبير من العملة خسارة كبيرة، ومن الممكن ان تساعد في إنشاء محطات كهرباء.
2-الوسط العام اعتبر ان المسؤولين الحكوميين وراء سرقة هذه الاموال.
3-الاوساط المالية اعتبرته اهمالاً.
4-الفقراء لطموا وجوههم وهم يرون هذه الاموال تغرق وهم لايملكون مسكنا ولا خدمات ولا مايسدون به حاجاتهم اليومية.
5-الوسط الفني وجدها وسيلة للتندر، فعرض الكثير من الاعمال السريعة للتعريف بالفساد وغيرها، اما البرامج التلفزيونية الحوارية فقد حولت الموضوع الى مشاهد تمثيلية وصراع (الديكة) بين المسؤولين.
قضية "غرق العملة الورقية" ظهر عام 2018 ، فيما الفيديو الذي صور مشهد غرق العملة في مخازن مصرف الرافدين عام 2013.
انتهت ازمة غرق العملة بعد مشادات وصراعات غلب عليها البعد السياسي، لكن هل هنالك من فائدة من وراء ذلك؟ الجواب (كلا)، فلا الاموال التي غرقت تم انقاذها ولا من حوسب على الجريمة، ولا هنالك من حاسب النائب الذي سوق الفيديو...وانتهى الامر الى المجهول لندخل في ازمة جديدة!! مثل نفوق الاسماك والدجاج ثم حرائق القمح، وصولاً الى قصف مواقع الحشد الشعبي ...الخ.
ومثلما عانت اسماكنا من "نفوق" يعاني اعلامنا من "نفوق" ايضا، حيث لم يعد المواطن يثق به قط، بعد ان كون صورة سلبية ذهنية عن الناس والحكومات والمشاكل والصراعات...
هذا الاعلام (وبهذه الادارات) تحول الى مشكلة بحد ذاته، فالمواطن "البسيط" لايتحمل هذا "الضغط" وليس لديه من ثقافة ما يرد على الاسئلة، وان يبحث عن الحقيقة وسط هذه الصيحات والصخب والروائح النتنة..
ان العديد من الاعلاميين الذين كانت لهم مشاكل مع مسؤولين في المؤسسات التي عملوا بها تحولوا الى (خصوم للوطن) فسرعان ما احست الجهات الناقمة على البلد، بتذمرهم وسخطهم، فاستجلبتهم وحولتهم الى منابر لشتيمة "الوطن" حيث تراس بعضهم وكالات والاخر ادارة حورات او صحف الكترونية، او مواقع الكترونية ودفعوا لهم اموالاً مجزية، فاصبحوا عنواناً لزرع الذهنية السلبية للانسان العراقي، وباتوا بارعين في ادارة الازمة اعلامياً،وهم يناطحون المسؤولين رأسا برأس وبات المواطن لايرى في دجلة والفرات سوى بركة آسنة، وفي آثاره سوى خرائب، وفي وطنه سوى معتقلٍ!
المشكلة ان الاصوات الاعلامية "الوطنية" اصبح نصيبها محدوداً في ادارة الازمة، فمثلاً كلنا يعلم ان ايران لاتحتاج ان تنقل صواريخ "باليستية" لما فيها من مخاطر واسرار الى دولة مثل العراق، لعدم الحاجة اليها، فما معنى وجودها في منطقة مثل "امرلي" او "الدورة" فصواريخها بين يدي المقاومة في لبنان وسوريا وغزة، المحيطة باسرائيل؟، والمقاومة هناك تهتف ليل نهار انها صواريخ ايرانية؟..
القضية ان امريكا لاتريد لها شريك في العراق، وهي التي ضحت بـ(7) الاف مقاتل ومليارات الدولارات من اجل السيطرة عليه، وترى في الحشد الشعبي منافساً قوياً...فيما ادارات الازمة بقصف مخازن الحشد بمهارة عالية حيث تم الاتفاق مع اسرائيل ان تتهم نفسها بعملية القصف، وبذا فان فصائل المقاومة سوف لا تثار من المواقع "العسكرية الامريكية بالعراق" باعتبار ان "اسرائيل" بعيدة عنها الان، وسوف تتقبل قصفاً ثالثاً ورابعاً ، في وقت ان "الاخوة النظيفة" تكون قد رتبت اوراقها قبل الحدث وتكون شغلتنا بالشيخ "الناصري" وجعلت عمار وسواه يطلقون البيانات، ليتحول الصراع في البحث عن القائم بجريمة قصف مخازن الحشد والشرطة الاتحادية الى صراع ايهما افضل (الحشد ام الجيش)!!..
ان اعلاماً بمثل هذا يزكم الانوف بسبب النفوق المتواصل لايمكن ان يصنع وطناً و، لا ان يواجه الازمات ولشدة فقدان الثقة بنفسه ، بات يستقي معلوماته من الصحف العربية والاجنبية والاسرائيلية، وتحاول كل جهة ان تهاجم خصمها بالمعلومات الواردة في وسائل الاعلام هذه، دون الاستفادة من جملة واحدة من كتابنا ومحللينا وعناوين صحفنا وفضائياتنا...
حتى لو دعينا الى مؤتمر الى وسائل الاعلام المحلية، لغرض اعداد ورقة عمل واستراتيجية وطنية ، فان من يحضر لارأي له فهو مجرد مدير لمؤسسة تابعة لحزب، اذا تحرك انجاً خارج ارادتها او تفاعل مع المشروع الوطني فانه سرعان ما يسرح وليس له من طريق اما الخلود في منزله او الهروب الى (الخوة النظيفة)!!..
، ان الوطن فيه اقلام واصوات نبيلة، ولايمكن لهؤلاء الاعلاميين او السياسيين ان يجعلوا بيننا وبين وطننا من غربة...
https://telegram.me/buratha