المقالات

من ذكريات زمن البعث..قساوة القساة..!


كاظم مجيد الحسيني

 

لا يختلف أثنان ممن عاشوا فترة الحصار الاقتصادي بعد غزو الكويت، من انها اصعب ما مر به الشعب العراقي ،مما نعكس على جميع جوانب  الحياة وبأخص الجانب الاقتصادي والذي اخذمنا مأخذا كبير لا يسع المقام للحديث عنه الان،

فاصبح الشاب العراقي بين نارين ،توفير(المعيشة) وبين سرطان اسمه العسكرية، وما ادارك ما العسكرية التي كانت من اصعب التحديات الواثبة لما لها من تبعات وانتهاكات تطال كل المحذورات لدى الانسان، فكنت أنا (صادق مجيد ناصر) واحد من الآلاف المؤلفة من الشباب العراقيين الذين وقعوا بين هاتين النارين ، ففي عام1993اكملت سن الثامنة عشر من عمري فوجب علي مراجعة التجنيد، لتسجيل موقفي القانوني وتحديد مصيري من الخدمة الالزامية، تخلفت عن الالتحاق لمدة سنة بسبب العوز المالي ، وعدم القناعة بأنخراط بالمؤسسة العسكرية و عائلتي ترضخ تحت ظروف إقتصادية صعبة جدا،

بعدها صدر (عفوا عاما)عن الهاربين والمتخلفين سمي بعفو(قطع الاذن ) سيئ الصيت بعدما تزايدت أعداد الشباب الهاربين والمتخلفين بشكل ملفت للنظر، مما اعتبرته القيادة البعثية تحديا صريحا بعدم الانصياع لها، بسبب سياساتها الهمجية وحروبها العبثية وما افرزه  الحصار من فقر وجوع وعوز وهتك للكرامة والشرف، (فهددت بقطع الاذن)!

سوقت الى مركز تدريب(دلة عباس) ثم الى مدرسة السياقة والادامة في(أبي غريب) حيث كان مضمون (العفو) يحجز العائد الى وحدته شهرين كاملين كعقوبة له، دون ان يذهب الى اهله خلال تلك الفترة،

فيما كان نظام المدرسة( نزول يومي) بعد الدوام، لم تمضي على مباشرتي غير أربعة أيام وقد نفذ كل ما عندي من مال، فقررت المجازفة بالنزول الى البيت لإعادة ترتيب نفسي وجلب ما احتاجه من مستلزمات اساسية كجندي، فكان ذلك اليوم (الاسود)الذي سأحكي لكم جزء يسيرا منه لما مر علي فيه من الألم واحزان ومواقف تحتاج مجلدا ،

تم إلقاء القبض علي من قبل مفرزة (للحزب)بعد جسر الميكانيك في منطقة الدورة ،فطلبوا مني أذن النزول او ما يعرف (بعدم التعرض) بالمصطلح العسكري، فشرحت لهم الامر وترجيتهم حتى دمعت عيني ، فلم يرتجف لهم جفن او تتحرك ومضة رحمة في قلوبهم وهم محاطين بنا من كل جانب،

فقاموا بتسليمنا الى مركز شرطة العمارات (الصحة) في الدورة ، وبقيت في هذا الموقف لمدة (تسعة عشر يوما) مع أكثر (150) محتجز، داخل مكان لا يتسع لأكثر من ثلاثين شخص ، كان نومنا بالدور مجموعة تنام على الارض (متراصفة) واخرى تبقى واقفة في الحمام، فكانت هذه الفترة من أقسى واصعب ما مر علي في حياتي،في ذروة حر الصيف اللاهب تحت مروحة تكاد تكون متوقفة، ونقص حاد بالاوكسجين لعدم وجود فتحة بالسجن ، وقد هون علي هول ذلك بعدما وجدت اصدقاء لي بالسجن يشابهون حالتي، اذكر منهم (يحيى معن واخيه رياض معن)وهما معروفين في منطقة (هور رجب) لغاية اليوم، بعد مرور عشرة ايام من احتجازنا، بدأت عمليات (قطع الاذن ) تأخذ مسارها، فكان صباح كل يوم تقرأ عشرة اسماء من المحتجزين ليتم اخذهم لمكان تقطع بها اذانهم ثم يأتوا بهم الى الحجز، وهم في حالة يرثى لها والدماء تسيل منهم وصراخهم يفزز الميت، دون اي مبالاة او مراعات لوضعهم الصحي او النفسي وما ينتج عنه من مضاعفات خطيرة أدت ببعضهم للانتحار بضرب رؤوسهم بالجدار بشكل عنيف لشدة الألم داخل السجن،

وفي هذه الاجواء المشحونة بالخوف والرعب من سماع قراءة اسمي في كل صباح، كانوا اهلي في نفير عام، لتخليصي من هذه(الورطة) فاستخدم أبي كل الوسائل الاقتصادية والاجتماعية لأجل رؤيتي والاطمئنان على وضعي وسلامتي، فيما كان اخي الاكبر يتنقل بين المعسكرات ويسابق الزمن لأجل اثبات موقفي القانوني بالكتب الرسمية لإطلاق سراحي.

الى أن جاء أخي بما يثبت صحة وسلامة موقفي، كنت قد مت الف مرة ومرة، تحسبا لسماع اسمي مع وجبة جديدة لقطع اذانهم  في صباح كل يوم.

تم تسفيرنا نحن اللذين لم يشملهم قطع الاذن، الى مركز تسفيرات بغداد في (الشالجية)على ما اذكر.

فكان هذا المكان اسوأ وأتعس واشقى من سابقه، كانوا يتعاملون معنا بشكل لا يمكن ان  يصدق في وقتنا الحاضر، أستمر احتجازنا فيه لمدة (ثلاثة اشهر) استخدموا معنا حربا نفسية بالتجويع والإهانة والعنف وهتك الكرامة والشرف، كان طعامنا اليومي  عبارة عن (برميل ماء) يخلط معه علبتين حليب مع صمونه واحدة فقط لمدة (24)ساعة وفي اليوم التالي يسكب البرميل ويعاد نفس الشي لكل، تلك الفترة، اما الجزء الثاني من الحرب النفسية فكان العنف المفرط الذي استخدمه الحراس مع المحتجزين ، كانوا كل اسبوع يخرجوا مجموعة من (المخالفين)حسب مصطلحهم، ليتدرب عليهم من قبل مدربي (القوات الخاصة )داخل السجن بكل استهزاء وسخرية.

وبرغم من كل ما مر علينا من ظلم وعنف وقسوة وجوع،  لم تخلو تلك الأماكن من المواقف المحرجة والمضحكة ، بالمجازفة والتحدي ، حيث كان معنا احد المحتجزين(مدلل) ويظهر أنه من عائلة لها نفوذ وعلاقات بالدولة، لا نعرف قصته بالضبط..ولماذا هو هنا..كانت تأتيه حقائب وأكياس من كل أصناف والالوان الطعام ،وبه  توصية خاصة بمعاملته من قبل الحراس، فكان يغدق على الحراس مالا وطعاما،وهم يخرجوه يوميا بالهواء الطلق وتحت اشعة الشمس، لكي لا يصاب بعدوى او مرض،

وفي احدى الليالي كنا في حاله هستيرية من الجوع فهمس في اذني  (يحيى معن) على سرقة ما يتبقى من الاكل لذلك (المدلل) لكون كنا ملاصقين له في منامنا،

فقام صديقي بثقب حقيبته (بالسيكارة) رويدا رويدا حتى احدث  بها فتحة وسحب منها الطعام،

فأكلنا حتى شبعنا، ولم نفكر بما سنجنيه من فعلتنا هذه لشدة الجوع ، وما ان تكشف ضوء الصباح حتى تفقد المدلل حقيبته!

فنهض وصاح وشتم وتطاول فلم يجبه احد، فجاء الحراس على صوته واستفهموا عن الأمر، فسألوا عمن قام بهذا العمل؟ف لم يجب احد وكرروا سؤالهم فسكت الجميع، فامروا بان يرجع الجميع الى أماكنهم حسب نوهم، فاتضح الامر نسبيا، باعتباري أنا ويحيى اقرب شخصين عليه، فردد الحراس سؤالهم وقالوا من يعترف سوف يعفى من العقاب ومن لن يعترف بإرادته فسوف نجعله يعترف بالتعذيب الشديد؟ فقرر(يحيى) الاعتراف عسى ان يفو بوعدهم وينجو من عذاب أليم، ولكن كعادتهم كانوا قساة مجرمين يتلذذون بأوجاعنا بلا رادع أنساني يمكن يحرك الرحمة في قلوبهم ،ويلتمسوا لنا عذر الجوع، فعادوا به قبل غروب الشمس والدماء تسيل من كل مكان في جسمه، وقضى عشرين يوما  ينام على بطنه كي تلتئم جراحه.

في خضم هذه الاجواء المشحونة بالخوف والرعب تحسبا من قراءة اسمي بالقوائم اليومية، كنا نتسائل عن مصيرنا نحن الذين لم يثبت هروبنا او تخلفنا عن الخدمة، مع الحراس عسى ان يصلوا تساؤلاتنا الى المسؤولين، فدخل علينا احد الضباط ويلقب( بالأستاذ) رد علينا بكل سخرية واستهزاء مصيركم مرتبط بظهور(المهدي)عج.

بعدها بأيام تم تسفيرنا الى مقر الانضباط العسكري (الحارثية) كما تسمى انذاك، لمدة ثلاثة أيام  فتم فرزنا كلا حسب وحدته، وقاموا بنقلنا بسيارة الى (كراج العلاوي) ليتم تسفيرنا بالقطار الى الرمادي، وكنا في حال ومنظر أشبه (بالمتشرد) لشدة اتساخ ملابسنا واجسادنا، وقد اخذ منا (الجوع) مأخذا، فقام بعض المحتجزين بمناشدة المواطنين لشراء طعام لهم ، فأستجاب كثير منهم تعاطفنا معنا، فيما كان رجال الانضباط يمنعون اهل الغيرة والحمية من مساعدتنا، وينعتوننا (بمجرمين).

وصلنا الى أمرية أنضباط الرمادي وتم حجزنا فيه مدة  سبعة أيام ،داخل جملون (جينكو) لا يختلف عن غيره من حيث القذارة والاهمال، أخيرا !! تم تسفيري الى مدرسة السياقة والادامة قبل غروب الشمس، فادخلوني على ضابط الخفر ودقق في اوراقي ثم تأكد مع مسؤول (الادارة) صحة موقفي بتوقيعه باستلامي!! في هذه اللحظة  احسست اني ولدت من جديد، وما هي الا دقائق معدودات حتى امر بأيداعي ( بسجن الوحدة) الى الصباح ليتم عرضي على امر المدرسة، ليرى حالنا طلبنا منه اجازة، فرفض وقال اذهبوا الى أهلكم اليوم وغدا (على مسؤوليتكم) وبعدها تأتوني بقيافة كاملة.

فوافقنا بدون تردد وان كان فيها مجازفة كبيرة جدا، دخلت الى البيت وأنا غير مصدق بعدما حفظنا الله من السيطرات وكلاب البعث المنتشرة.

اكملت دورة السياقة والادامة وتم تنسيبي الى السرية الالية النقلية (سائق دراجة) موزع بريد في دائرة المراتب/الدائرة القانونية، فأكملت خدمتي بها بين الالتزام بالدوام وهم المعيشة، فكانت ولازالت اصعب وأقسى ايام حياتي.

 

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك