نــــــــــــزار حيدر
إِذا كانت عاشوراء عبَّرت بشَكلٍ صارخٍ عن وحشيَّة الحاكم الظَّالم، وتلك مأساةٌ، فإِنَّ المأساة الأَكبر في صمتِ الرَّجُل [الطيِّب] كما يقولُون.
وهذهِ هي مُشكلةُ المظلومين دائماً، واحدٌ يظلمهُم وعشراتُ [الطيِّبين] يتفرَّجون من دونِ حتَّى مواساتهُ وتطييبِ خواطره.
أُنظرُوا ماذا يَقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {وَايْمُ اللهِ لاَُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ، وَلاََقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهَ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً}.
فهل هي مسؤُوليَّة الحاكم العادل فقط؟ أَن ينصفَ المظلُوم؟ أَبداً، هي مسؤُوليَّة المُجتمع العادل كذلك، أَلم يقُل ربُّ العزَّة {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
ومنذُ كربلاء ولحدِّ الآن حاول الطُّغاة ووعَّاظهُم تبرير الجريمة بشَكلٍ من الأَشكال، رُبما ليس لذاتِها وإِنَّما لحمايةِ طُغيانهِم واستبدادهِم.
فمثلاً؛ عندما أَراد وُعَّاظ السَّلاطين تبرير جريمة الطَّاغية يزيد بقتلهِ للحُسين السِّبط (ع) لم يتمكَّنوا من ذَلِكَ قبل أَن يُشرعنُوا الخُضوع والإِستكانة للخليفةِ وحُرمة الخروج على الحاكمِ الظَّالم، كحاكمٍ، ثم طبَّقوا الفِكرة والنظريَّة على يزيد فبرَّرُوا بها فعلهُ المَشين.
ثمَّ أَطَّروها بالحديثِ المكذوبِ [إِذا إِجتهدَ وأَصابَ فلهُ أَجرانِ، وإِذا أَخطأَ فلهُ أَجرٌ] ففي كلِّ الحالاتِ هُوَ مأجورٌ!.
بمعنى آخر، إِنَّهم يبنُون نظريَّة ثم يطبِّقون عليها المصاديق التي ينوُونَ شرعنتها، كما فعلَ ذلك [إِبن خلدُون] في [نظريَّة العُصبة] التي شرعنَ بها خلافةِ الطَّليق مُعاوية الذي حُرِّمت عليهِ، وعلى كلِّ الطُّلقاء الآخَرين، الخلافةِ والشُّورى، كما أَشارَ إِلى ذلكَ الحُسين السِّبط (ع) فبعد أَن رفضَ بَيعة يزيد، لقيهُ مَروان بن الحكَم عند صباحِ اليَوم الثَّاني، فدارَ بينهُما كلامٌ (نصحَ) فِيهِ مروان الإِمام (ع) ببيعةِ يَزيد، فاسترجعَ السِّبط (ع) وقال {على الإِسلام السَّلام إِذا بُليَت الأُمَّة براعٍ مِثْلَ يَزيد، ولقد سمعتُ جدِّي رسولَ الله (ص) يَقُولُ؛ الخلافةُ مُحرَّمة على آل أَبي سُفيان فإِذا رأَيتُم مُعاوية على مِنبري فابقرُوا بطنهُ، وقد رآه أَهلُ المدينةِ على المِنبر فلم يبقرُوهُ، فابتلاهُم الله بيزيدٍ الفاسق}.
كما كانَ قد أَشارَ إِلى ذَلِكَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) وذلكَ في رسالةٍ جوابيَّةٍ للطَّاغيةِ مُعاوية بقولهِ {وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنْصَارِ} وإِذا كانت الشُّورى ليست من حقِّهِ فالخِلافةُ أَولى بالتَّأكيد.
طبعاً، إِنَّهم لا يُطبِّقون نظريَّاتهم على الكلِّ وإِنَّما على مَن يميلونَ إِليهِ ويُشايعُونهُ فقط، ولذلكَ فهم مثلاً برَّروا تمرُّد الطَّاغية مُعاوية على الخليفةِ الشَّرعي أَمير المُؤمنينَ (ع) لأَنَّهُ لم يقتص من قتَلَة الخليفة الثَّالث، أَمَّا مع يزيد فعملُوا النَّقيضَ من ذَلِكَ، فهُم لم يتحدَّثوا عن عدمِ اقتصاصهِ من قتلةِ الحُسين السِّبط (ع) كدليلٍ على قَبولهِ بالجريمةِ وإِنَّهُ هو الذي كان قد أَصدر أَوامرهُ بهذا الصَّدد، وإِنَّما راحُوا يتحدَّثون عن [تمرُّد] الحُسين السِّبط (ع) على [خليفةِ زمانهِ] حتَّى قالُوا أَنَّهُ قُتلَ بسيفِ جَدِّهِ!.
إِنَّ العلاقةَ بين الحاكم الظَّالم ووعَّاظ السَّلاطين هي علاقة منفعة ومصالِح مُتبادلة رُبما تكون في إِطار التستُّر بـ [الشَّريعة] مثلاً أَو [العقيدة] ولكنَّها في الجَوهر محاولة لتوظيفِ الشَّرع في خدمةِ هَذِهِ المنافع والمصالح المُتبادَلة.
ولعلَّ القصَّة التَّالية تبيِّن بشَكلٍ واضحٍ ما أَريدُ قولهُ وتبيانهُ، وهي قد وردت في [مِنهاج السنَّة (٥٧٤/٤)، البِداية والنِّهاية (٣٢٨/١٢)، سِيَر أَعلام النُّبلاء (١٦٠/٢١)]؛
إِنَّ الخليفة النَّاصر لمَّا بلغهُ نهي عبد المُغيث الحنبلي (٥٠٠-٥٨٣ للهجرةِ) عن سبِّ يزيد، تنكَّر وقصدهُ، فعرِفهُ عبد المُغيث ولَم يُعلِمهُ بأَنَّهُ قد عرِفهُ، فسأَلهُ الخليفة عن يزيد؛ أَيُلعن أَم لا؟ فقالَ؛ لا أُسوِّغُ لعنهُ لأَنِّي لو فتحتُ هذا الباب لأَفضى النَّاسُ إِلى لعنِ خليفتِنا؟ فقالَ الخليفةُ؛ وَلِمَ؟ قال؛ لأَنَّهُ يفعل أَشياء مُنكَرة كثيرٌ منها كذا وكذا، ثم شرعَ يُعدِّد على الخليفةِ أَفعالهُ القبيحة، حتَّى قال لَهُ؛ أُدع لي يا شَيخ، وذهب.
هذا يعني أَنَّ الدَّافع وراء نظر [عبد المُغيث] ليس الشَّرع ولا مرضاة الله تعالى وإِنَّما هو الهوى الذي انتصرَ بهِ للطَّاغية يزيد، وفِي نفسِ الوقت هو يتزلَّف للسَّلاطين الظَّالمين بمثلِ هذا النَّظر، كما يذهب إِلى ذَلِكَ القاضي أَبو الحسن مُحمَّد إِبن القاضي أَبي يعلى الفرَّاء الذي صنَّف كتاباً فِيهِ بيان مَن يستحق اللَّعن وذكرَ فيهم يزيد وقال [المُمتنع من ذَلِكَ إِمَّا أَن يكونَ غَير عالِم بجواز ذلك أَو مُنافقاً يُرِيدُ أَن يوهِمَ بذلكَ].
ولقد عمَّم بعضهُم الرَّأي ليشمِل كلَّ خليفةٍ ظالمٍ مهما أَتى من المُوبقات، فهذا النَّووي يَقُولُ في شرحِ مُسلم [قال القاضي عيَّاض؛ فَلَو طرأَ على الخليفةِ فِسقٌ قَالَ بعضهُم؛ يجب خلعهُ، إِلَّا أَن يترتَّب عليهِ فتنةٌ وحربٌ، وقالَ جماهير أَهل السنَّة من الفُقهاء والمحدِّثين والمُتكلِّمين؛ لا ينعزل بالفِسق والظُّلم وتعطيلِ الحقُوق، ولا يُخلع ولا يجوزُ الخروجُ عليهِ بذلكَ] تخيَّل!.
وكلُّ هذا لتبريرِ جرائم الطَّاغية يزيد وشرعنتَها بطريقةٍ وأُخرى.
هي نظريَّةٌ وليست رأي قِيل في وقتهِ وظرفهِ وانتهى، إِذ لا زال يُفتي بها وُعَّاظ السَّلاطين ولازالَ يستفيدُ منها الحكَّام الظَّلمة لتكريسِ سُلطانهِم وتدعيمِ أُسُس حكمهِم مهما فعلُوا من جرائم وارتكبُوا من فواحشَ واعتَدَوا على حقوقِ النَّاس.
٤ أَيلول ٢٠١٩
ـــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha