شذا الموسوي
خرج من بيته في الكرادة الشرقية / سبع قصور متوجها الى عمله كعادته كل يوم.. كان اليوم هو الثلاثاء 9/9/1980 والساعة لم تتجاوز السابعة صباحا.. يمشي مرفوع الرأس، بقامته الشامخة ووسامته الملحوظة . كان في عنفوان الرجولة ، في نهاية العقد الرابع من عمره، فخورا بما حباه الله من ميزات الذكاء الحاد والشخصية القوية والثقافة العالية، وارث عائلي كبير مزدان بسلسلة طويلة من العلماء ورجال الدين والشعراء والادباء، لينتهي الى فخر الانسانية، رسول الاسلام العظيم محمد (ص)، مرورا بعشرة من الائمة المعصومين (ع). والده السيد صادق الموسوي الهندي كان امام الجماعة في حسينية عبد الرسول علي في الكرادة، وكان يحضى بمحبة واحترام كبيرين من اهالي المنطقة، وتتلمذ على يديه جيل كامل من رواد الحركة الاسلامية والثقافية انذاك. اما هو فقد كان الشعر والادب ميدانه الذي حاز فيه السبق، والتأريخ والبحث شغله الشاغل عندما لا ينهكه الكد في اعالة العائلة الكبيرة التي يتحمل مسؤوليتها..
في ذلك اليوم غادر منزله وهو قلق على تلك العائلة، فقد كان نذير الشر يحيق بها..كانت السلطة الغاشمة قد بدأت بالانزعاج من نشاط افرادها سياسيا وثقافيا .. وتعرض بيت العائلة الكبير للمداهمة عدة مرات في فترات متقاربة من قبل قوات الامن البعثي الصدامي.. في اولاها تم اعتقال ابنه الاكبر"علي" قبل سنة ، وخرج بعد شهر من التعذيب و التنكيل بجسد محروق بصعقات الكهرباء واعقاب السكائر، وكرامة جريحة ونفس كسيرة... ما يشغله اكثر ان البحث في المرة الاخيرة كان عن اخته سعاد،عرضه، وهو الغيور على عرضه، مما اضطره لجعلها تغادر المنزل وتسكن وحدها في بيت الجد الكبير في النجف الاشرف، عسى ان تنجو من ملاحقتهم.
ما زاد الطين بلة هو الاشتباك الذي دار بينه وبين مدير امن الثورة الرائد المجرم ابراهيم علاوي قبل يومين عندما كان جالسا في احد المقاهي مع اصحابه، حيث دخل المذكور بينهم ، وتطفل على جمعهم الذي كانوا يتبادلون فيه حديث الشعر والادب، فلا يخلو من مطاردة شعرية او مسابقة في النظم على البديهة ...تدخل هذا الاحمق الجاهل ليعكر صفوهم ويحيل مجلسهم الى حلقة نزاع...فما كان منه الا ان تصدى له، ورد عليه بما يليق بمثله من تعنيف وتحقير، لتنطلق من فم الضابط المغرور-الذي لم يتعود ان يجابهه احد- اقذع الشتائم وابشع الالفاظ، والتهديد والوعيد بان تكون نهايته على يديه...حدث هذا على مرأى ومسمع من جميع الحاضرين، الذين سارعوا بمغادرة المكان خوفا وهلعا.
ما ان وصل الى رأس الشارع وهم بالعبور الى الجهة الاخرى، حتى توجهت باتجاهه سيارة مسرعة فضربته والقت به الى جانب الرصيف فاقدا للوعي ، غارقا بدمه. تجمع الناس حوله وتعالى الصياح والصراخ ، منعوا السائق والشخص الذي معه من الهرب، وسارع صاحب المحل القريب من الحادث "الحاج حسن علو" الى تسجيل رقم السيارة التي اضطر صاحبها الى حمل المصاب الى مستشفى الطواريء في الكرخ، وهناك رقد السيد موسى وهو يعاني من كسر في الحوض قال الطبيب انه قد يقعده عن السيرفترة طويلة.
تقبلت العائلة هذا القدر فقد كان امر الله ومشيئته، وروضنا انفسنا على فكرة ان يكون الوالد مقعدا،فالمهم انه ما زال على قيد الحياة، يحمينا ويجمع شملنا. لم نناقش كثيرا او قليلا ما سيحل بالاسرة عندما تفقد معيلها الوحيد. زرته في اليوم التالي في المستشفى... وكان اول ما انتبهت اليه ان ابي كان جميلا جدا في ذلك اليوم.. بدا كأنه اصغر عمرا واكثر بهاءا ...كان وجهه مضيئا بشكل غير اعتيادي وابتسامته الهادئة تملاء وجهه..
سارعت لاحتضانه وقبلته عدة مرات في وجهه ويده ...كيف حالك يا ابي ..الحمد لله على سلامتك... لكنه اعطاني الصحيفة التي كان يقرأ فيها...
_ شذا ستحدث حرب.. اقرأي ..حرب مع ايران...
اخذت الصحيفة لاقرأ فيها..(تحرير زين القوس وسيف سعد من الاحتلال الفارسي الغاشم) ..لم اهتم كثيرا وعدت الى ابي اتطلع بوجهه كأنني أريد ان اشبع من رؤيته واتزود منه لما تبقى من عمري... اجبرني اخي الاكبر على تركه في ذلك اليوم اجبارا.. كنت ابكي وأريد البقاء الى جانبه..قال لي: لا تبكي، سيعود الينا..كلها كم يوم...
في اليوم التالي وكان عصر الخميس11/9/1980...تجمعنا انا واخوتي وبنات عمي في بيتنا الكبير لنتفرج على برنامج سينما الاطفال كما نفعل كل اسبوع...كان صوت ضحكنا ولعبنا عاليا كالعادة ..واذا بخالتي سلمى تدخل علينا بوجه حزين، وتصيح بصوت ملتاع ...قوموا ..قوموا..البسوا السواد...لا تضحكوا بعد اليوم...فقد مات السيد موسى ابن السيد صادق..
مات ابي؟؟ ولكن كيف؟؟ لا اصدق ..لا اصدق ...لقد كان بصحة جيدة يوم امس عندما زرته...اصابته كانت كسرا في الحوض...كيف تؤدي الى الوفاة؟؟
في اليوم الثاني من مراسيم العزاء جاء اخي علي وهمس بأذن امي" ليس حادثا...لقد قتلوه ".. سمعت كلماته وانا ارتعد .. كان يحمل بيده شهادة الوفاة واوراقا اخرى يبدو انها اوراق التحقيق... السيارة التي ضربته تعود لمدير الأمن الذي اشتبك معه قبل ايام، ابراهيم علاوي، السائق كان سائقه الخاص،وابراهيم علاوي كان هو الشخص الثاني في السيارة اثناء الحادث.
منذ ذلك اليوم علق هذا الاسم في ذاكرتي ..ابراهيم علاوي...ليلاحقني فيما بعد في جميع المصائب التي حلت باسرتي...وقد صدقت خالتي سلمى... فلم نضحك ابدا بعد ذلك اليوم.
https://telegram.me/buratha