عباس العنبوري
لقد نشأت الاجيال التي سبقت ثورة وسائل التواصل الاجتماعي على ايجاد رموز معروفة السيرة والتواجد بين الناس بشكل نستطيع ان نعبر عنه بأنه حقيقي ومحسوس وملموس (tangible). فكان لكل صبي او فتى قدوةً مثلاً قد يكون شاباً متفوقاً او عالماً نحريراً او زاهداً ترابياً او حتى شقياً من اشقياء الحي.
وقد يكون خطيباً مفوهاً او شاعراً جزلاً او مطرباً عذب الاحساس والصوت او روائياً مسبوك العبارة والكلمة، وهكذا.
ولم تكن تلك الشخوص بعيدةً او شبحيةً. بل كان سلوكها الاجتماعي وسيرتها بين الناس موضع رقابة المعجبين ومحل اهتمام المحيطين، بل ونقد من شاء النقد.
وبذلك كتبت المجلات والصحف عن الفنانين والمطربين واللاعبين والروائيين والعلماء. كما وكتبت عنهم السير والمذكرات. تارةً باقلامهم وتارةً اخرى باقلام غيرهم ممن وثّق وأرّخ وحفظ. وكانت الناس تعرف الكثير عن رموزها و تتخيلها وتتقصى صورها.
وكنت في مراحل الصبا وحتى وقت متأخر أُلاحق كتب السيرة التي توثق سيرة العلماء والزعماء وأُحاكي ما يمكنني ان اقتفيه واتعلمه بما ينسجم مع ما اطمح واسعى اليه. ولا زلت اتذكر صوراً حاضرةً في ذاكرتي. لذلك الشاب المهذب المتفوق الفقير الذي يُضيء مصباحاً في سطح داره ليسهر على دراسته في كلية الطب. لقد كان وأمثاله مثلاً أعلى لي وأقراني ممن عشقوا الدراسة وسعوا في بلوغ اعلى المراتب فيها. ولا اشك ان جميع من سبق ثورة وسائل التواصل الاجتماعي يملكون الكثير من أمثال هذه الشواهد.
اما الجيل الذي نشأ وتربى بعد الثورة، فيختلف عنده المثل كثيراً. فقد انحسر لديه الرمز الحقيقي ليُستبدل بالرمز الافتراضي. رمزٌ قد لا يكون موجوداً سوى في بضع صور وبضع كلمات. تغيب الحقيقة فيه لتُستبدل بفرضيات عن الشجاعة والبطولة والقوة قد لا تكون موجودةً في حقيقتها. انها الرمزية التي تصنعها وسائل التواصل الاجتماعي من خلال مقاطع قصيرة وصور ومنشورات قد لا تتعدى بضع كلمات. قد تغيب كل البيانات عن الرمز الافتراضي كالسلوك الاجتماعي والاخلاقي وطبيعة القيم التي يؤمن بها.
عند ذلك سيكون للصناعة والانتشار الاثر الاكبر في اختلاق الرمز.
لقد حصل ذلك في مئات المقاطع الفلمية القصيرة التي انتشرت منذ بداية تظاهرات تشرين الأول وحتى الآن. ولن يكون بذلك امام المتابع الا ان ينساق الى تيار اختلاق الشخصية الافتراضية ويعمل على محاكاتها بسهولة ويسر ما دامت لا تكلف جهداً كبيراً سوى بضع صور للمشاركة في التعبئة والانضمام الى الجموع المطالبة بالحقوق. وهنا لن يكون هناك صوتٌ اعلى من صوت الرمز المُختلق. ولن يكون هناك هناك قيمةٌ لأي كلمةً ازاءَ تعرية تلك الرموز المختلفة التي فرضت نفسها في ساحة العمل الافتراضي!
لأنها ببساطة ارادة العالم الافتراضي الذي سيكون اي صوتٍ شاذٌ فيه ما دام لا ينسجم مع نسق الاصوات التي شكلت ذلك الايقاع المتسق.
وهنا تكمن العقبة الكأداء في التفاهم بين جيلين مختلفين في طبيعة الرمز المتشكل عند كل واحدٍ منهم بما يشبه الصراع بين رمزين. احدهما حقيقي والآخر افتراضي. وهي محسومة ولا شك للطرف الآخر(الافتراضي). ما دام اتباع الرمز (الحقيقي) يتمسكون بنفس الاساليب في تشكيل الرمز تحت يافطة اعتماد الوسائل التقليدية في التأثير.
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)