د.احمد العلياوي
نشأت أجيالٌ عراقيةٌ متعاقبةٌ تحتَ مقولةِ (نفِّذ ثم ناقش)،وهي إحدى مقولات السلطةِ المُبادةِ في العراق .
التنفيذ برأي الحزب يدعوكَ دوماً لأن تُنفِّذَ من غيرِ سؤالٍ أو اعتراضٍ أو تردد ، حتى وإنْ كان الأمرُ الصادرُ يقضي بقتلِ أبيِكَ أو اعدامِ ولدِكَ أو هدمِ دارِ جارِكَ أو الوشايةِ بصديقِكَ الحميم.
المهمُ - لكي تكونَ مُواطناً عراقياً صالحاً - هو أنْ تُثبتَ للحِزبِ طاعتَكَ لأيِّ أمر ، واستجابتكَ لأيِّ توجيهٍ من دونِ نقاش.
هذا هو معيارُ الوطنيةِ لدى القيادة ، وبها تكونُ عراقياً شريفاً مُخلصاً للوطنِ الذي يحيطُ به الأعداءُ من كلِّ جانب ، وقد يكون أهلُك من أعدائه، فعليكَ أنْ تُخبرَ عنهم ، لترتقي بذلك وطنياً وتنال رضا الحزب.
لقد بنى النظامُ المُبادُ علاقتَهُ بالشعبِ على أساسِ أنَّ الجميعَ مُتَّهمٌ بالعمالةِ والخيانةِ ، إلى أنْ يثبُتَ خلافُ ذلك ، فعليكَ أنْ تُبِّرئَ نفسَكَ من دمِ يوسف مثلَ الذئبِ الذي لحقتُهُ التهمةُ وهو لم يحضر حادثةَ غدرِ الأخوانِ بأخيهم.
عميلٌ أنتَ وخائنٌ إذا ذكرتَ -مثلاً- في سيارةِ الأجرةِ ارتفاعَ سعرِ الطماطمِ ، وإلى جانبكَ رفيقُ حزبٍ أو وكيلُ أمنٍ حريصٌ على مستقبل العراق .
هكذا عاشَ العراقيُ أميَّةَ التحزُّبِ التي تجعلُ من الإنسان عَتَلةً في منظومتها الميكانيكية التي تستهلكُ البشرَ مثل أيِّ دجاجٍ يؤدي وظيفتَه في قِدرِ الطبخ.
فعلى الإنسانِ أنْ يُنفِّذَ ما يراهُ الحِزبُ صَحِيحاً حتى وإنْ كانَ خطأ كبيرا ، فأنتَ ترى بعينِ رفيقكَ الحزبي لابعينك ، فعينُكَ قاصِرةٌ ، وعينُ الحزبِ نافذةٌ في تشخيصِ العُملاءِ من الشرفاء.
(نَفِّذ ثم ناقش) شعارٌ حزبيٌّ أحالَ جمعاً واسعاً من العراقيين إلى أميَّةٍ تمحو شكلَك ، وتُضيعُ هويتَك ، وتدَكُّ شخصيتَك ، وتُلغي رأيَكَ أمامَ رأي الحزب.
وإذا بلغتَ هذا التَخلُّفَ فسيغدقُ الحزبُ عليكَ الثناءَ الذي يوهمُكَ بأنكَ مواطنٌ تحمي الوطنَ من المؤامراتِ الخارجيةِ والداخليةِ ، ولكَ في كلِّ موقفٍ مكرُمة ، ولاسيما إذا ضحيَّتَ بأمِّكَ وأنتَ تساعدُ أمنَ الحزب ، لأنَّ أمَّكَ تريدُ تفجيرَ الجسرِ لقتلِ رفيقٍ يعبرُ عليهِ وهو عائدٌ من واجبِهِ الليلي مُعتَرِضاً طريقَ زائري الحسين!
وسيقدِّرُ لكَ الحزبُ موقفَكَ البطولي المُتفرِّدِ ليقرر تكريماً من القائدِ المناضلِ ، فتلتقي به ، وتجلسُ معه ، وتلتقطُ الصور ، هذا إذا استطعتَ مثلاً قتلَ ولدك ، مثلما فعلها أحدُهم ونالَ هذا التكريمَ ، وقد نقلَ التلفزيونُ العراقيُ ذلك في لقاءٍ بين الطرفين.
كان الأبُ ( القاتلُ) فخوراً بقتلِ ابنهِ الذي تخلَّفَ عن أداءِ الخدمةِ العسكريةِ فأغضبَ القائدَ والأمةَ العربية.
إنَّ تذويبَ الإنسانِ سهلٌ جداً ، فالمُتهمُ بالعمالةِ يُذابُ بالتيزاب ، والموصوفُ بالوطنيةِ يُذابُ بالتكريمِ .
هنا يبدع القتلةُ في ابتكارِ أميَّةٍ جديدةٍ تسلبُ الإنسانَ قدرتَهُ على التمييزِ ، وقراءةِ الواقعِ ، ومعرفةِ الصوابِ من الخطأ.
لايرى الأميُّ المُتحزِّبُ غير حزبِهِ وأهدافِهِ العظيمةِ التي ستنقذُ البشريةَ والكونَ والمريخَ من مخاطرِ الأعداء والعملاء !
يتحولُ الإنسانُ إلى منديلٍ ورقي يستعملُهُ الحزبُ المناضلُ لتنظيفِ مُخلَّفاتِهِ في الحماماتِ الوطنيةِ والمنازلاتِ الكبرى لتاريخ الأمة.
إنها أميَّةُ التحزُّبِ التي لا تعرفُ رَبَّاً ولا دِيناً ولا تاريخاً ولاشَرَفاً.
إنها صناعةُ حزبِ البعثِ الذي حكمَ البلادَ (٤٠) عاماً ، وصنعَ فكرةَ التنفيذِ الأميِّ الذي لا يسألُ معه سائلٌ : لماذا أنا أفعل كل هذا ؟!
ولم يُغيِّر سقوطُ الحكمِ من هذا المرضِ الاجتماعي الذي أصابَ العراق ، لتغلغلِ فعلِ السلطةِ الحاكمةِ في سلوك المجتمع، فتغيُّرَ الأنظمةِ السياسيةِ لايُلغي آثارها في الشعوب.
لقد انتشرت تلك المقولةُ مع انتشارِ التحزُّبِ في العراق بعد ٢٠٠٣، وعادَ الولاءُ قائماً على قبولِ الجهةِ التي تنتمي لها بصوابِها وخطئِها ، بحُسنِها وسوئِها، بنجاحِها وفشلِها، بل بأنْ ترتضي الأخطاءَ بوصفها صوابا ، والمساوئَ حسنات، والفشلَ نجاحا، فترضى خطأَ أصحابِكَ وترفضَ نجاحَ غيرهم.
لقد صارَ من الواضحِ ، أنَّ سقوطَ الأنظمة سياسياً لا يعني زوالَ ثقافتِها ومقولاتِها ، لأن ذلكَ تكوينٌ نفسيٌ واجتماعي ، لايختفي إلا بزوال أجيالٍ ، أو تغييرِ أنظمةِ الثقافةِ في الدولةِ الجديدة ، وهذا مالم يحدث في العراق .
فهل تغيَّرَ النظامُ فعلاً مع بقاءِ مقولاتِهِ حاكمةً مابعد السقوط؟
إنَّ الجوابَ يستدعي منا النظر لمجتمعنا نظرةً واقعية ، ودراسته دراسةً شاملةً ، لنجد الحلولَ للتغيير الحقيقي ، وأهمُّها فصلُ العراقيين عن نظامِ صدامِ فصلاً جذرياً ، فلا يمكن بناءُ نظامٍ سياسي من دونِ تأسيسٍ معرفي ثقافي للدولةِ الجديدةِ، ينفصلُ فيه المجتمعُ عن المنظومةِ الحزبيةِ لأفكار النظامِ المُباد ، إذ ليس من المعقول إنتاجُ وطنٍ بحكومةٍ ديمقراطيةٍ في بيئةٍ غير قادرةٍ على إبداءِ الرأيِ والنقاشِ والاعتراضِ ، ذلك لأنها محكومة لنظامٍ سقطَ سياسياً ، لكنه لم يسقط ثقافياً .
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)