مسعود ناجی ادریس
ثم السعي في هذا المقال للنظر الى الابعاد المختلفة للطعام بناءاً على الاية (24) من سورة عبس {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ}.
هذه الآيه بما تحتويه استراتيجية مهمة ومؤثرة في توفير صحة الروح والجسم كما تتضمن سلامة وصحة وأمن الفرد والمجتمع ايضاً .لذا فقد قررنا ان تكون لنا وقفة تفسيرية وتأويلية وعملية حول هذه الآية . سُئل الامام الباقر (عليه السلام) وكذلك الامام الصادق (عليه السلام) حول معنى الطعام الوارد في هذه الآية المباركة فأجابا (عليهم السلام) (فلينظر الى علمه ممن يأخذه) أي: يجب على الانسان ان يتأكد من المصدر الذي يتلقّى منه العلم .
وينقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: ((مالي أرى الناس إذا قُرّبَ إليهم الطعام ليلاً تكلّفوا إنارة المصابيح ليُبصروا مايُدخلون بطونهم , ولايهتمّون بغذاء النفس , بأن ينيروامصابيح ألبابهم بالعلم , ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب في اعتقاداتهم واعمالهم)).
كما توّضح فإن لبُعدي لطعام الروح والجسم ومن البديهي أن المطلوب ليس النظر الى الطعام بل المراد التدقيق والتفكّر في هيكل المواد الغذائية , ومكوناتها الحياتية وتأثيراتها العجيبة على الوجود الانساني وفي نهاية التفكّر في خالقها ,اذ يتوجب علينا عندها ادراك حكمته البالغة وقدرته القاهرة.
بلاغ هذه الآية في البعد التربوي والأخلاقي هو أن انظروا لطعام اجسامكم وارواحكم كي لا يكون من الحرام ,وأن لا تغفلوا بالنظر اليه عن الفقراء والمعدومين, من جانب آخر انظروا الى طعامكم وتفكرّوا في أنَّ الرياح والسحاب والشمس والارض كلها عملت معاً كي تخرج لكم هذا الطعام, لهذا فليس لائقاً ان لا تشكروا المنعم ولا تسعوا لخدمة مخلوقاته . من جانب آخر كما أنَّ مياه الامطار تتسبب بكلّ هذه النعم والبركات, فأن هذه النعم والبركات قد هُيئت لأجل أنّ تستعملها اجسامنا , كذلك امطار الوحي الألهي نزلت على قلب النبي الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم ) , ومن خلاله تحفظ في صدور الأئمة المعصومين (عليهم السلام) تجري في قلوب المؤمنين كالعيون المتدفقة فتنموا بها الصفات المحمودة كالأيمان والتقوى والفضائل الاخلاقية في الروح الانسانية ,وهذا تفسير وتأويل آخر مستمدٌ من هذه الآية الشريفة المليئة بالمضامين العالية. لذا يجب القول : كما ان الانسان مكّونٌ من الروح والجسم , فكذلك طعامه يجب أن يكون طعاماً جسمياً وروحياً .فالتدقيق في غذاء الجسم وبعده في غذاء الروح من حيث المحتوى والهيكل ومن حيث طرق الحصول والاكتساب(ممن يأخذه), يستطيع تسيير الانسان في مسير معرفة الله وتهذيب نفسه .في العالم الافتراضي وشبكات التواصل الاجتماعي اليوم يجب علينا ان ننظر بدقة الى محتواها وقالبها ومن يقف خلفها , صدقاً ممن نأخذ اليوم طعامنا الفكري وغذائنا الروحي والعقلي؟ الى أي مدى ندقق ونتابع في نوعية طعامنا في هذا العالم الافتراضي ؟ كما تعلمون هناك نقاط تشابه بين غذاء الروح والجسم , وأحد تلك النقاط هو أن كلا الطعامين اذا كانا سامّين فهما يتسببا بالضرر على الانسان ولكنهما يفترقان في أنَّ الضرر في بعده الجسمي قابلٌ لللمس والنظر , ويراجع الانسان الطبيب من اجل معالجة ذلك والتخلّص منه , ولكنه في التسمّم الروحي والإضرار والأذى المحتمل هناك ونتيجة لعدم بروزها بشكل واضح , فإنها تتعتّق ولا يكتشفها الانسان إلا بعد مضيّ وقت طويل وعلى القاعدة ستكون مراجعته العلاجية ايضاً متأخرة .
التوصية الاخيرة التي من الممكن أن تساعدنا كثيراً في كلا البعدين هي الاستراتيجية (( الوقاية)) . احدى معاني النظر في الآية الكريمة هو العمل بأستراتيجية ((الوقاية)) كما تعلمون ان الوقاية خيرٌ من العلاج , وتكاليفها افضل بكثير من تكاليف العلاج . الوقاية تعني الدقة والحذر في اختيار نوع الطعام وأنَّ هذا الطعام من أين وكيف وبواسطة من ثم اعداده ؟ في الغذاء الجسماني نسعى لمعرفة فترة صلاحية المنتج وعلامته التجارية والمواد المستخدمة في صناعته وعلامة المعايير الصحية فهل نبذل كل هذه الدقة والحذر في اختيارنا لطعامنا الروحي ؟ اذا لم نكن حتى الان نمتلكها , فيجب علينا استناداً للآية الشريفة ان ننظر بشكل اكثر علمية وذكاء ومسؤلية , كي نصون انفسنا من الاضرار والاذى اذا ادركنا هذه الجملة القرأنية بشكل جيد وعملنا بمضمونها , فيقيناً سنقف بوجه الكثر من المشاكل الجسمية والانحرافات الاخلاقية والروحية ويستطيع الانسان بالالتفات الى مفاد هذه الآية ان يحيا حياة سلمية وذا دراية في البعد الجسمي وحياة طيبة لامعة في البعد الروحي.
يقينا فإنّ هذه الاية هي وصفة لحلّ كلّ المشاكل الروحية والجسمية وكذلك هي استراتيجية يحتاجها الانسان كثيرا في هذه الايام.
من جانب آخر عندما تنظرون الى ظاهر الغذاء الجسماني فانكم تستطيعون تشخيص الغذاء الفاسد عن طريق الرائحة والطعم والشكل، ولكن الطعام الروحي الفاسد بسبب ماهيته ليس قابلا للرؤية والمشاهدة.
لذا فهو غير قابل للتشخيص والتعيين وكذلك غير قابل للقياس ايضا، وفي النتيجة فان تلوث الغذاء الجسمي قابل للمشاهدة بالعين ولكن في البعد الروحي فانّ رؤية التلوّث وادراك مستواه ومقداره صعب، لذا فالإستراتيجية القرآنية >فَلْيَنْظُر< بمعنى التأمل وتدقيق النظر. وقد فسّروا هذه الاستراتيجية بان ((انظر الى طعامك ممن تحصل عليه)).
عندما يكون علمنا علما علمانيا ومصدر تغذيتنا الفكرية هم الليبراليون (التحرريون) فإن من البديهي أن يكون نتاج هذا العلم هو الإباحية، اللامبالاة وقتل جميع القيم الدينية والإلهية والإنسانية.
الناس اليوم بعد تطوّر العالم الافتراضي مجبرون على الاستفادة من هذه التكنولوجيا لاجل الحصول على بعض الامور، ولكن يجب ان نعلم أن وراء هذه التكنولوجيا توجد ايدلوجيا (عقيدة) فاسدة ومنحطة، والتي تبدأ بحقن المحتوى الملوّث بالإنسانوية (Humanitas) والعلمانية والدعاية للحياة الغربية والسعي في مهاجمة قيم وثوابت المجتمع ولن تدخر جهدا في هذا المجال اذا لم يحذر الانسان منها ولم يراقبها. لهذا يجب علينا ان ننظر جيدا الى الغذاء الذي نغذي به ارواحنا وان نعمل على تقليل الاضرار والصدمات عنها عبر اتخاذ الخطوات الوقائية المناسبة.
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)