محمد عبد الرضا هادي الساعدي
من يدرس مسيرة المرجعية الدينية في النجف الأشرف يدرك أنها تسير على خط واحد، دون تنكبات أو انحناءات أو تلكؤات، إنها استقامة، سوية، واستمرارية في المسيرة الرسالية، وأن الشخصية المرجعية محددة السمات وواضحة الهوية .... لا تضطرها المتغيرات المصطنعة والتحديات الداخلية والوافدة من تغيير لثوابتها الأصيلة والتزاماتها المبدئية، فالنهج واحد، والثقافة محددة والمنطلقات والأهداف محسومة .... وبخاصة حيال قضايا الأمة الإسلامية الكبرى، وحماية مصالحها العليا وبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بها، مثل القضية الفلسطينية التي نالت قسطاً واسعاً من اهتماماتها، وعاشت جميع تفاصيلها بمواكبة جادة ومشاركة مادية ومعنوية لافتة يصعب على مقال صغير كهذا تغطيتها. يكفي أنها قد استنكرت الاحتلال منذ بداياته على اياد البريطانيين عام ( 1917 م) الذين مهدوا للاحتلال الاسرائيلي، ولازالت الذاكرة تحتفظ بزيارة أحد مراجع الدين الكبار ( الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء ) لفلسطين في مؤتمر إسلامي عام، وقد أئتم المسلمون بالصلاة خلفه بالقدس الشريف، واستمر يكتب ويصدر البيانات في مساندة الشعب الفلسطيني ونصرة قضيته إلى آخر حياته، وفي ستينيات القرن الماضي أجاز زعيم الحوزة العلمية الكبير السيد محسن الحكيم صرف الحقوق الشرعية على القضية الفلسطينية، وكل من زامن هؤلاء الأعلام أو من جاء بعدهم قد ساروا على ذات النهج في دعم الفلسطينيين لنيل حقوقهم واستعادة أراضيهم المغصوبة التي هي في الواقع أرض تابعة للوطن الإسلامي مما يفرض على جميع المسلمين السعي لاستعادتها.
ويأت بيان المرجعية المباركة المتمثلة بسماحة السيد علي الحسيني السيستاني في النجف الاشرف عبر منبر الجمعة في يوم (5/جمادى الآخرة/1441هـ) الموافق (31/1/2020) ليؤكد على الموقف الثابت إزاء هذه القضية العادلة بعد ما أُعلن عن عرض جديد لحل النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين وهو ما وصفه الرئيس الأمريكي بصفقة القرن ( The Deal of The Century ) وهي صفقة تشير إلى صفاقة المتقدم بها، وقد ادانها الكثير من أحرار العالم وأصحاب الرأي بسبب تحيزها وعدم نزاهتها واعلانها الصريح لرفض كل قرارات الأمم المتحدة التي أدانت المستعمرات الإسرائيلية واغتصابها بين الحين والآخر للأراضي والمنازل والمزارع الفلسطينية.
إن بيان المرجعية القائل : " يبقى أن نشير الى انّ المرجعية الدينية تدين بشدة الخطة الظالمة التي كُشف عنها مؤخراً لإضفاء (الشرعية) على احتلال مزيد من الأراضي الفلسطينية المغتصبة، وهي تؤكد وقوفها مع الشعب الفلسطيني المظلوم في تمسكه بحقه في استعادة أراضيه المحتلة وإقامة دولته المستقلة، وتدعو العرب والمسلمين وجميع احرار العالم الى مساندته في ذلك " إن هذا البيان إلى جانب التأكيد على الحكم الشرعي بكامل الشفافية، يعطي زخماً معنوياً للمسلمين بوقوف علماء الأمة في وجه القوى الاستعمارية معبرين عن رفضهم للظلم وكشف المخططات المصممة لسلبهم الكرامة والسيادة والمنعة، وتحديهم للتهديدات والاملاءات الاستعلائية مثل قول ترامب: إذا لم يستطع - صهره المصمم لهذه الصفقة- Jared Kushner تحقيق هذه الصفقة فسوف لن يستطيع أحد من إحلال السلام للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ..... هذه الصفقة التي يمكن اختصارها : بأنكم لم تستطيعوا تحقيق أية حقوق لكم فتعاوا واقبلوا بهامش من الحق مقابل الاعتراف بأن لا حق لكم في كل ما سلب منكم وما ناضلتم من أجله لعشرات السنين!
من جديد يأت بيان المرجعية المباركة في النجف الاشرف ليكشف عن عدم مشروعية الصفقة المذكورة مستنهضاً جميع أحرار العالم لمساندة الشعب الفلسطيني في استرجاع أرضه وإقامة دولته المستقلة، وليؤكد على مواصلة الإصرار على نضاله المشروع ومشاركة العالم الحر غير الخانع للإذلال الإمبريالي في هذه القضية الإنسانية العادلة غير القابلة للمساومة والابتزاز وهوامش الحلول.
إن لهذا البيان دلالات متعددة تحتاج إلى قراءات متأنية، لأننا تعودنا بأن المرجعية الدينية في النجف الاشرف تنتقي مفرداتها بدراسة ودقة بالغة، ولا تتدخل إلا في القضايا المتعلقة بمصائر الأبرياء وتوفير الحماية لهم، بيد أن انصع دلالاته هي متابعة المرجعية للقضايا العالمية واسهامها في تقييم القرارات والمشاريع وتقديم الحلول الصائبة ازائها، وأن اهتماماتها ووظيفتها تشمل الإنسان بعنوانه العام وليست متكرسة لشريحة أو شعب أو أمة محددة ..... ولا شك أن قيمة هذه المتابعة تكمن في المرحلة الحرجة التي تخوض بها المرجعية عملية استتباب الأمن في عموم الشرق الأوسط من خلال التشديد على سيادة الشعب العراقي وحكم بلده بنفسه وخلاصه من التدخلات الخارجية التي زعزعت استقراره ما انعكس على ضعضعت الأمن في بلدان هذه المنطقة البركانية المتأججة بأسرها .... في خضم هذه المواجهة المجهدة تتابع المرجعية ما يجري على المسلمين واراضيهم وعلى عموم الشأن الإنساني وتبذل النصح وتسهم باحلال السلم المجتمعي على صعيد الأسرة الدولية، وترشيد الحضارة المعاصرة ذات النزعة غير المقيدة بأخلاق وأعراف وقوانين إنسانية أو دينية.
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)