محمود الهاشمي
ان مجرد القبول بالحد الادنى ،في اي عملية كانت تعد هزيمة امام الواقع وتراجعاً، وربما انتكاسة..والقبول بالحد الادنى تفرضه ظروف اجتماعية أو اقتصادية واخطرها سياسية، لان تاثيرها يتعدى حدود الشخصية او الاسرية الى الدولة وما في ذلك من تداعيات وانعكاسات على مجمل الحياة العامة للمجتمع.
ان الامم الحية هي التي تنتج حلولاً سريعة للتحديات التي تواجهها، وكلما كانت هذه التحديات كبيرة ، كلما ارتقت الحلول الى مستوى صعوبتها وتعقيداتها ، فمثلاً ان عظمة سور الصين تكمن في حجم التحدي الذي كان يواجهه البلد من الاعداء، وهذا الامر يتمدد على جميع المنجزات الحضارية للامم..
ان تقبل الحد الادنى من الامور يعني انك اخترت الاضعف، وهذا يعني فشل الخيار وتعقيد المرحلة ..
في بلدنا –العراق- مرت المرحلة السياسية بعد عام 2003 بتغييرات كثيرة، فرضتها ظروف عديدة منها:
1-ان التغيير جاء عبر جيوش غازية فرضت مخططاتها واهدافها على الواقع، ودمرت جميع البنى التحتية للبلد.
2-ان الشخصيات السياسية التي ورثت السلطة عن الاحتلال، وجدت نفسها في تجربة نظام حكم لم تعهده في ادبياتها والاحزاب التي التحقت بها، فالنظام البرلماني نتاج العقل الغربي، وهو نظام ليبرالي يحتاج الى مهارة عالية في ادارته.
3-فرض الاحتلال الامريكي للعراق تقليداً خاصاً في تجربة النظام البرلماني وهو مبدأ "المحاصصة" سواء كانت في الاستحقاق الطائفي او العرقي او في الاستحقاق الانتخابي فافسد التجربة برمتها.
4-حداثة التجربة وحجم التدخل الخارجي افقد التجربة بوصلتها واضاع هويتها فطغى الفساد في جميع مفاصل الدولة وامات عصب الاقتصاد واوقف النشاطات الاجتماعية والانسانية.
5-حجم الدمار الذي احدثته التنظيمات الارهابية من قتل وحرق وترهيب اثر كثيراً على بنية المجتمع وركز الطائفية وقسم البلد الى كونتات على اسس العرق والطائفة والدين.
6-ان جميع الشخصيات السياسية التي تعاقبت على حكم البلد في اطوال واحدة، وليس فيهم من يعول عليه في اي تكليف لانقاذ الدولة.
7-الدورة التشريعية الرابعة "الحالية" كشفت عن جميع اخطاء الدورات السابقة بما في ذلك مرحلة الحاكم المدني الامريكي ثم مجلس الحكم والجمعية العمومية، وافصحت عن حجم التدهور في التجربة السياسية وفقدان الحلول، وكان من نتاجها العزوف الكبير عن الانتخابات، ومارافقها من عمليات تزوير وحرق لصناديق الاقتراع وفوق ذلك عدم انتاج "الكتلة الاكبر" وتقارب الارقام، مما عقد المشهد السياسي اكثر فكان خيار "شخصية التسوية" – الاستاذ عادل عبد المهدي- عنواناً لسقوط حمل التجربة السياسية برمتها الى الارض وكشف زيف واخطاء جميع المراحل السابقة.
ان الرضا في اختيار شخصية عادل عبد المهدي لرئاسة مجلس الوزراء، يعني فقدان دور صناديق الاقتراع وآليات النظام البرلماني في "الكتلة الاكبر" حيث استدعي الرجل دون ادنى غطاء سياسي فبقى معلقاً بالهواء غير قادر باتخاذ اي اجراء فعلي، الى درجة ان في مرحلته التي لم تتعد العام فقدت الدولة كامل هيبتها، فلم تعد للسطات الثلاث اي دور يذكر، ولولا مبالغ تصدير النفط، لما تمكنت الدولة من توزيع رواتب الموظفين!!.
لم تكن استقالة "عبد المهدي" بغير المتوقعة، أو لأن الرجل يخضع عمله "للمزاج" كما عرف عنه ، ولكنه وجد نفسه "غريباً" بين شارع غاضب على المتراكم من اخطاء الدورات السابقة، وبين طبقة سياسية ممسكة بـ"الدولة العميقة" وغير مستعدة للتنازل عن موظف استعلامات في المؤسسة التي استولت عليها عبر "المحاصصة"، كما عمل الاعلام ( المضاد) في السيطرة على الراي العام وايقاد الازمات واشعال الفتن ، يقابله اعلام رسمي "ضائع" واعلام حزبي متمترس وفق اهواء مالكيه..اما القوات الامنية فقد وجدت نفسها "متهمة" وغير قادرة بالدفاع عن الممتلكات العامة والخاصة او الانصياع لاي اوامر، لذا وجد الامريكان فرصة في ذلك بالتجاوز على ضرب مقار الحشد الشعبي، وارتكاب مجزرة "المطار" وان تتلقى الرد الايراني في قصف قاعدة "عين الاسد" حيث تتواجد القوات الامريكية...
بعد استقالة عبد المهدي، حضرت شخصية لم تكن بالحسبان "محمد توفيق علاوي" فلم يعرف له في ميدان العمل السياسي من تميز ولا في العمل التنفيذي على الرغم من عمله كنائب بدورتين وكوزير كذلك..لا نعرف حتى الان من وراء استقدامه لهذا المنصب، وكيف وافق رغم حجم التحديات الكبيرة التي يمر بها البلد!!.
ان واقع الحال الزم الجميع، في "الرضا" عن شخصية محمد توفيق علاوي، فالمتظاهرون انهكتهم وقائع التظاهر لما رافقتها من معوقات ودخول الاجندات الخارجية، وغضب الشارع ضدهم وفقدانهم الكثير من اصدقائهم، فيما الكتل الممثلة لمناطق الوسط والجنوب خنقتها تداعيات التظاهر وتحميلها مسؤولية فشل التجربة السياسية، وكذلك اللوم من قبل المرجعية الرشيدة..من جهتها فان المناطق الغربية ملزمة بـ"الرضا" لانها بين امرين الاول ان تذهب الى "الاقلمة" وهو خيار غير مضمون النتائج وفيه معارضة كبيرة داخلية وخارجية، وفيه مسؤولية ايضاً. في ذات الوقت فان احزاب الاقليم يدركون ان "علاوي" ماض في وضع البدائل عن وزرائهم السابقين وسيحتلون الوزارات "المصنفة" لهم، واي خيار اخر سيخلق لهم مشكلة مع بغداد، التي في الخلاف معها تداعيات تذكرهم بتداعيات "الاستفتاء" والازمة الاقتصادية وغيرها..
ستتم المصادقة على "كابينة علاوي" تحت لافتة "الحد الادنى" لان الخيارات الاخرى هي اما "الفوضى" او الحرب الاهلية والانقلابات.
الامريكان يدركون ان مجيء (علاوي) اخفّ حملا عليهم من (عادل عبد المهدي) لان (الفوضى) تحرض الاعلام العالمي ضدهم كونهم فشلوا في صناعة دولة بالعراق -كما يدعون -، كما انها -اي الفوضى -تضبب المرحلة وتفقدهم التركيز بشأن تواجدهم في البلد ، حيث قد تدفع مثل هذه التداعيات الى اتساع المواجهة ضد وجودهم العسكري خاصة .
اما (ايران) فهي لا ترى فرقا كبيرا بين (علاوي) وبين (عبد المهدي) فكلاهما لن يذهبا بعيداً في العداء لهم ، او الانصياع التام الى المخطط الامريكي ...
السؤال (الان) الذي يشغل الشارع العراقي : هل ينجح علاوي في مهمته ؟
الجواب ، ان (علاوي) غير مؤهل – وفق طبيعة شخصيته المعهودة – لادارة البلد خلال مدة بقائه سواء في اكمال الدورة التشريعية الرابعة او عدم اكماله وذلك للاسباب الاتية :
1- طبيعة (كارزما) شخصيته ، وغموض مجيئه للمنصب .
2- ليس خيار احد حتى الآن.
3- سعة التحديات الخارجية والداخلية
4- عدم تفاعل (مجلس النواب) معه ، ومع كابينته الوزارية .
5- الضغط الاعلامي (المضاد) للترويج لعدم قبول علاوي ، يقابله اعلام محلي غير متفاعل مع مجيئه للسلطة
هناك (نافذة) واحدة يمكن من خلالها إن نرى بصيص ضوء في نجاح (علاوي) في مهمته وتتلخص خيوطها بالنقاط الاتية :
1- إن طبقة السياسيين بكل عناوينهم وجغرافيا تمثيلهم هم في (دائرة الاتهام) وهم في نظر الشعب ليسوا باكثر من فئة (فاسدة) استولت على مقدرات الشعب ونهبت خيراته ، ولذا هم ملزمون بالتعاون مع رئيس الوزراء الجديد قدر المستطاع لتسويق أنفسهم وكأنهم (فئة مصلحة).
2- ان تداعيات (التظاهرات) جعلت الجميع يترقب حلا لمشكلة البلد ، وان (الاستقلالية) التي دعا لها (علاوي) ومعه وزراؤه قد تكون فيها فسحة لمنحه الوقت في تقديم شيء يذكر.
3- ليس من مصلحة الجميع ان يذهب البلد الى (الهاوية) لان الضرر سيتعدى حدود السلطة إلى مصالح الشعب.
4- ان صراع النفوذ سوف لا يرتقي الى تداعيات كبيرة لان في ذلك ضرراً لجميع الأطراف.
اخيرا نقول ان سياسة (الحد الأدنى)ليست خيار احد ، وليست هدفاً ، ولكن من الممكن التحضير لما بعد ذلك ، خاصة في الانتخابات سواء المبكرة او التي في موعدها ، فربما تتوفر فرصة اكبر لانتاج طبقة سياسية ذات نفع .
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha