ضحى الخالدي ||
الأدبيات اليهودية زاخرة بأفكار الثأر و الانتقام من بابل، و سأسلط الضوء هنا على أسبوعين من تأريخ هذا الصراع الدامي.
انتقمت ممالك يهوذا و اسرائيل من العراق خلال اسبوعين بشتى الوسائل، من قتل و من جوع و حققت كل أمانيها و ضربت برؤوس أطفال بابل بالصخر كما تمنت منذ آلاف السنين.
لعبت اقذر الألعاب بمشاعر الناس و وعيهم و كرامتهم و حطّمت معنوياتهم و حاولت و تحاول تزييف تاريخهم و واقعهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر :
في مناطقنا لم يحدث ما يعرف بالفرهود خلال أسبوعي الانتفاضة الشعبانية و قمعها ١٩٩١ الا بدخول الحرس الجمهوري الملعون و لم يكتفِ بذلك بل أحرق حتى دوائر الجنسية بملفاتها و مستنداتها. و هو سلوك اعتادته قوات البعث في خرّمشهر (المحمرة) و البصرة و الكويت و من ثم في محافظات الفرات الأوسط و الجنوب.
رغم جوع الناس في نهاية الحرب المدمرة و انقطاع مياه الإسالة و التيار الكهربائي و غيظ الانسحاب المهين و مجزرة المطلاع و هلاك الأرواح البريئة و الدمار الذي أصاب البنى التحتية لأربعين يوماً من القصف المتواصل ناهيك عن ظلم البعث الجاثم على ارواحنا لسنوات فإن الحالة الوحيدة التي خرج فيها أناس مدينتي للفرهود كما يسمونه خلال الانتفاضة الشعبانية كان قبل دخول مدرعات الحرس الجمهوري للمدينة. عندما وصل القطار من البصرة محملاً بالطحين؛ استولى الأهالي على الطحين لكن كان مليئاً بالنخالة و شظايا الزجاج و ذرق الجرذان، و لك ان تتخيل مشاعر الخيبة حينها؛ كأنها مسرحية (بانتظار غودو) لصموئيل بيكيت أخرجها نظام البعث الصهيوني بمنتهى الاحترافية.
خلال نصف ساعة وصل القطار الى منطقة الحصوة حيث يرابط الحرس الجمهوري المنسحب من الرزازة و ابلغ سائقه القوات المرابطة هناك و المتجهة لحدود بغداد لحماية جرذ العوجة؛
اخبرهم بتقدم الحراك الشعبي نحو شمال المسيب
خلال ساعة و نصف سمعنا رصاص المدرعات يأكل شوارع مدينتي و ابناءَها كما تأكل النار الحطب.
رُبّ معترض يقول بأن صداماً قد اطلق تسعةً و ثلاثين صاروخاً باتجاه اسرائيل، و لكني أجيب اين القتلى و الجرحى و البنى التحتية المدمرة في الكيان الصهيوني؟!
سئمنا المهاترات و الحروب الدعائية.
كل ما حدث خلال ايّام الانتفاضة كان بضوء اخضر اميركي - اسرائيلي حسب اتفاقات خيمة صفوان.
الشباب في مدينتي جمعهم المقبور حسين كامل في تقاطع كربلاء و رماهم بإطلاقات البكتة من المدرعات و الدبابات لتظل جثثهم في العراء ثلاثاً كحسينهم الذي استلهموه و عاشوه.
و مرّت أسابيع و الكلاب تحمل يد هذا و رجل ذاك.
فيما ارتدى المنافقون الذي هتفوا في الليل يسقط حزب البعث العربي الاشتراكي
ارتدوا البزّات الزيتونية في نهار اليوم التالي و ارشدوا الجلاوزة لبيوت المنتفضين ثائراً بعد ثائر.
في النجف الأشرف تحديداً؛ حين أسقط في أيدي الثوار كان كبار السن (المعگّلين) يحفرون حفراً دفاعية يرابطون فيها مع أسلحتهم البسيطة و ذخيرتهم القليلة و يربطون أرجلهم بالعقال حتى اذا ما جاءت الدبابات و المدرعات لتدوسهم لا ينهزمون. هكذا كانوا يرفعون معنويات الشباب.
الشباب الذين استشهد منهم من استشهد، و ملأت مقابرهم الجماعية تراب العراق، و سُجن مَن سُجن، و نُفي مَن نُفي، و منهم من وصل اليوم الى أوج النضج و منهم من وصل الى الكهولة ليولد منهم جيل جديد يحمل هذا العنفوان.
من شعارات (لا ولي الا علي) الى (القدس درب الشهداء) بذات العنفوان الحسيني؛ من مشروع التغيير السياسي في العراق الى مشروع الأمة.
ما هي الجينات التي جعلت من شعب مقموع محاصر اقتصادياً و إعلامياً لا يعرف من فلسطين الا مشروعاً بعثياً او مجموعة انتحاريين للانتقام من شيعة العراق بعد ٢٠٠٣؛ كيف تحولت القدس لديه الى قضية أمة و قضية إنسانية؟
هؤلاء المقاومون لنظام البعث في العراق كانوا مقاتلين و ابناء مقاتلين للدفاع عن فلسطين و دمشق و عمان في ١٩٧٣ على الاقل.
لكن ما الذي حوّل الشعور القومي الى شعور بالواجب الديني و الاسلامي و الانساني؟
أو ليست شوارع بغداد هي التي ظلت نهاراتها و لياليها طبيعيةً إبان استشهاد السيد الشهيد الصدر الاول و شقيقته بنت الهدى؟!
كان يفترض بالقدس أن تدفن معه!
او ليست مائدة نزهت ظلت تصدح فرحانة ديرة هلي تموز من هلّيت؟ و الشوارع تصفق و تهلل و تطبل لبطل العروبة و التحرير القومي؟
أو ليس كل عراقي في الداخل كان يشعر بالغبن تجاه امتيازات المواطن الفلسطيني و المواطن المصري في العراق؟
كان يفترض بالقدس أن تموت هكذا!
كيف لوهج الثورة الاسلامية و إشعاع افكار الإمام الخميني أن تصل العراق الذي دُفِنَ لعقود.
كيف ترفع صور الإمام الخميني و قائد الثورة الاسلامية الخامنئي في شوارع بغداد جنباً الى جنب مع الاعلام الفلسطينية بعد ثمان سنوات من حرب الاشقاء؟
شهيد القدس ذاته يشكر الله على نعمة وقوف الإيرانيين و العراقيين سويةً في خندق واحد ضد الاٍرهاب بعد ثمان سنوات من الحرب الضروس، فهل كانت القدس فكرةً ايرانيةً يستنير بها عراقيون ذيول كما يحلو للبعض أن يسميهم؟
فما شأن اليمن؟ سوريا؟ لبنان؟
ماذا عن البحرين؟
كيف لليمن ان تنسى حربها و جوعها و أمراضها لتهتف ملايينها باسم القدس؟!
لقد كان تشخيص العدو الأصيل في منتهى الدقة حين رفع ابطال اليمن شعارات الموت لاسرائيل و الموت لأمريكا.
ذات الشعارات التي اطلقها السيد الشهيد الصدر الثاني : كلا كلا اسرائيل كلا كلا امريكا.
فالحروب مع الأدوات من البعث الصدامي و القاعدة و داعش و نظام آل سعود هي حروب بالوكالة عن اسرائيل و اميركا؛ خاض المقاومون فيها حروب استنزاف قاسية.
كيف أصبحت القدس قضيةً عالميةً انسانيةً لا يمينيةً و لا يساريةً على يد الامام الراحل؟ هذا سؤال قد يشطّ بِنَا عن مقصد الحديث.
لنركز السؤال كيف ان القدس أصبحت بفضل دعوة الامام الراحل لإحياء ذكرى القدس كل عام فكرةً عالميةً في ذهنية المقاوم العراقي الجديد؟ أو كيف ان المقاوم العراقي انطلق بفكره نحو الأممية و تطور من الاقتصار على قضايا الذات الى ذوبان الذات في القضايا الانسانية؟!
كيف ان المقاوم وجد في عالمية أفكار الثورة الاسلامية تمهيداً لكونية النهضة المهدوية و تمهيداً لها؟
هذا هو الحل: الذوبان في الانسانية من خلال الذوبان في الاسلام باعتباره حلاً في خدمة البشرية و ليس العكس.
لذا صار تحرير جنوب لبنان كأنه تحرير الفلوجة، و صولات اليمن كأنها معارك تحرير بيجي، و مظلومية البحرين و نيجيريا هي ذاتها مظلومية الانتفاضة الشعبانية في وسط و جنوب العراق، و الحصار على طهران و كاراكاس هو ذات الحصار على بغداد.
و القدس هي الهدف الأغلى و لكنه ليس النهائي، بل باعتبارها المنطلق نحو العالمية لتحقيق العدل، العدل الذي بدأ بذرةً باحتجاجٍ على غبنٍ في لقمة عيش ثم تحول الى ثورة حرف و حرية رأي و معتقد و تطوّر ليكون فكرةً و منهاجاً و تطبيقاً لا بمقاربة انسانَوية باسم الانسانية بل بأطروحةٍ و منهجيةٍ إلهيةٍ في خدمة البشرية.
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)