محمد الجاسم ||
إنطلاقاً من الحاجة الى تمتين نسيج الروابط المشتركة التي ممكن أن توحد شعوب العالم،وتساهم في خلق تجانس بين ثقافات الشعوب التي تشكل معاً تراثاً مشتركاً ، وإنطلاقاً من قلق بعض الدول المؤثرة في المشهد العالمي من أن هذا النسيج الرقيق يمكن أن يتعرض الى التمزق في أي وقت،وبالنظر الى التعرض الفعلي لملايين الأطفال والنساء والرجال في العالم الى أن وقعوا خلال القرن الحالي ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة..وبالنظر الى أن ثمة جرائمَ كبرى في العالم خطيرةً قد هتكت حرمة السلم والأمن والرفاه في العالم،لذلك كانت الحاجة قوية وضاغطة لتأسيس (المحكمة الجنائية الدولية) التي كان نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وتعديلاته في 25 أيلول / سبتمبر 1998 و 18 أيار / مايو 1999، منطلقاً لتفعيل عملها دولياً إنطلاقاً من مقرها في هولندا.
صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت من أربع دول، إضافة الى الصين والهند وروسيا ، قد إمتنعت عن التوقيع على ميثاق المحكمة،وإنشائها،في بداية الأمر، لكن عدد الدول الموقعة على قانون إنشاء المحكمة بلغ واحدة وعشرين ومائة دولة ، وإن الولايات المتحدة الأمريكية لم يَرُقْ لها أن تستمر في نشاطها وتمويلها لهذه المؤسسة الدولية (التي هي غير تابعة للأمم المتحدة) نظراً لتعارض الأهداف والممارسات بين الطرفين،نتيجة الكم الهائل من الممارسات اللا إنسانية التي قامت بها هذه الدولة المارقة والمتسلطة على قرارات الكثير من الهيئات الدولية ،خدمة لمصالحها الذاتية البعيدة عن مصالح شعوب العالم،وقامت بالفعل بأعمال الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وإغتيال قادة ومواطنين داخل الولايات المتحدة وخارجها،كما دعمت بشكل واضح وملموس العديد من الأعمال الإرهابية التي تقوم بها منظمات إرهابية مثل داعش والقاعدة قبلها، أو يقوم بها تحالف هنا أو هناك، كالتحالف السعودي الإماراتي لتدمير اليمن وقتل شعبها،وقبل ذلك فعلت في ليبيا وسوريا والعراق وافغانستان وفييتنام وكوبا والدومنيكان وألمانيا واليابان واليونان وكوريا الشمالية وإيران وغواتيمالا ولبنان والدومنيكان وأندونيسيا وتشيلي والسيلفادور ونيكاراغوا ،وغيرها من بقاع الأرض،مرة بالقصف المباشر،وأخرى بتدبير الإنقلابات العسكرية،وثالثة بإفتعال الحروب الأهلية الداخلية. ولذلك فإن الحكومة الأمريكية على مرّ التاريخ كانت مصدراً لجلب الويلات لشعوب العالم، كما كانت سبباً في شن المزيد من الحروب وسفك الكثير من الدماء.
ومن هذا المنطلق الوحشي للإدارة الأمريكية على طول العصر الحديث،تقاطعت المحكمة الجنائية الدولية مؤخراً مع إرادة الإدارة الأمريكية تكتيكاً وستراتيجاً،في الوسائل والغايات،فلم تصبر هذه الإدارة المستبدة على المحكمة، إذ هددت إدارة ترامب مرات عديدة بعرقلة تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في أفغانستان وفلسطين ،والتي يمكن أن تحقق في سلوك المواطنين الأمريكيين والإسرائيليين الذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية..ثم اختتم الرئيس ترامب حقده على العدالة والإنسانية بإصداره حزمة من العقوبات، شملت مؤخراً ،في الحادي عشر من يونيو/حزيران 2020، أمراً تنفيذياً يجيز تجميد الأصول وحظر السفر العائلي ضد موظفي المحكمة الجنائية الدولية، وربما يستهدف الذين يساعدون المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها.
إن هذا الموقف الأمريكي ضد المحكمة الجنائية الدولية يسهم الى حد بعيد بالتشجيع على الجرائم الدولية الأسوأ مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وتمريرها دون عقاب،كما يساعد أيضاً على تحجيم الإجراءات العقابية الرادعة للجُناة المحتملين، مستقبلاً.
ورَبَّ قَوْل..أنْفَذُ منْ قَوْل.
ناصريةُ ـ دورتموند / ألمانيا
19تموز2020