ابراهيم العبادي||
ابتداءً لابد من التفريق بين النظرية العلمية وفق منهج البحث العلمي الاكاديمي والنظرية في عرف الفقهاء ودارسي العلوم الدينية ،الاولى تعرف بانها جملة من التصورات والقضايا والنماذج المترابطة في مابينها والتي تهدف الى تفسير ظاهرة معينة (نظريات النمو ،نظرية الصراع الطبقي ،النظرية الكمية ،نظريات التحليل النفسي ،الخ )،اما الثانية فهي رؤية ونظر واجتهاد الفقيه في قضية معينة ،كما نقول نظرية الميرزا النائيني في شرعية الملكية الدستورية ،ونظرية الشهيد محمد باقر الصدر في حق الطاعة على المكلفين في مقابل نظرية قبح العقاب بلا بيان ،ونظرية ولاية الفقيه المطلقة للسيد الخميني ونظرية ولاية الامة على نفسها للشيخ محمد مهدي شمس الدين ونظرية شورى الفقهاء ،وهذه النظريات وغيرها الكثير، تتوفر على مقدمات ومرتكزات عقلية وشرعية تؤلف فكرة شاملة لتفسير وتقنين وشرعنة نموذج او نظام أو قانون ،ان المعايير المعتمدة للقول بان لفلان فقيه او مرجع نظرية ام لا ، هو تبنيه للفكرة والراي العلمي ،شرحا واثباتا ،وتكرارها وتأكيدها في بحوثه ودروسه وبياناته ، او يكون موقفا ازاء قضية خارجية لها واقع كقضية الدولة ، بما يحق نسبتها اليه ابداعا او تطويرا أو ترسيما او تحديدا لحدود ودلالات جديدة .
في حديثنا عن نظريات الفقهاء ذات الصلة بالشأن السياسي ،وهو احد اهم المجالات التي يدور بشأنها الجدل والنقاش والترجيح والتصويب والتخطئة ،تواجهنا نماذج اصبحت تمثل علامات تاريخية ومحطات تحقيب لتطور ونمو الفقه السياسي ،ابتداءا من المحقق الكركي (المتوفى سنة 940 هجرية ) الذي قبل ان يسبغ الشرعية على الدولة الصفوية السلطانية بوصفه نائبا عاما عن المعصوم ، الى الاخوند الخراساني (ت1911)الذي انتصر لفكرة الملكية الدستورية ،الى تلميذه الميرزا النائيني الذي دافع عن حق الانتخاب والوكالة عن الامة في مجلس منتخب ،نلاحظ ان هذه النظريات حاولت ان تشرعن النظام السياسي بشروط وفق المرتكزات الفقهية التي تنطلق منها رؤى وتصورات واجتهاد الفقيه .ومثلما جمع الامام الخميني بين ولاية الفقيه المطلقة والجمهورية ،فان للسيد السيستاني رؤية لم يجعل فيها للفقيه الجامع للشرائط محورية كبيرة ، بل انه ذهب في نصوص صريحة الى مايلي:
1- انه مع الدولة الدستورية الصريحة التي تقوم على مبدأ التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة ، وحق المواطن في التعبير عن ارادته ورايه في انتخابات تجرى وفق قواعد قانونية عادلة ونزيهة .
2- ان الاكثرية المسلمة لن تختار نظاما يتعارض مع ثوابت التشريع وقيم المجتمع وهويته مع التأكيد على حقوق الاقليات الدينية والسياسية .
ان شرعية الحكم والحكومة تستمد من رأي الشعب وعبر الاقتراع السري المباشر والارادة الحرة .
3-ان السلطة التشريعية هي التي تمثل الامة .
4- دائرة التشريعات البرلمانية محددة بعدم معارضتها للمواد الدستورية ،ومنها عدم معارضة كل التشريعات البرلمانية لثوابت الشريعة وقيم المجتمع .
5- السلطة التشريعية هي التي تمنح الشرعية للحكومات .
6- السلطة التشريعية مكلفة بمراقبة ومحاسبة الحكومة والتأكد المستمر من اهليتها في اداء واجباتها .
وبناء على هذا التسلسل يمكننا القول ان نظرية السيد السيستاني تتبنى الدولة الحديثة الدستورية ذات الاليات الديمقراطية ،وهو يرى ان هذه الدولة تكتسب شرعيتها من الامة ،وتعتمد مؤسسات قوية تضمن استمرار هذه الشرعية مع وجود المرجع الاعلى الذي يوجه وينصح ويرشد .
لقد تبلورت هذه النظرية منذ سقوط نظام الاستبداد عام 2003 حيث اصر السيستاني على مجلس الامن الدولي ضمان حق الامة العراقية في اختيار ممثليها بحرية لتدوين دستور دائم تنبثق منه مؤسسات حكم وسلطات تمارس وظائفها نيابة عن الشعب ،وقد كرر المرجع متبنياته هذه في البيان الذي تلي في خطبة الجمعة يوم 4-5-2018 ،واعاد التأكيد عليه في بيان تلي في خطبة الجمعة في 15-11-2019 ،ثم اعيد التاكيد على ذات الافكار بعد لقاء ممثلة الامين العام للامم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت يوم 13-9-2020،
ولم تكن هذه البيانات تصدر عن موقف سياسي بحت كما قد يتوهم او يتأول البعض ،ولم تكن مضغوطة بظروف تقية او مجاراة لاحد ،بل هي تعبير عن متبنى فقهي واجتهاد ذي جذور في التاريخ الفكري والعلمي لمدرسة النجف ،نحن بازاء نظرية دولة في الفقه السياسي الشيعي لم تأخذ مداها الكامل في القراءة والبحث ،تارة لزعم من يزعم انها لاتعبر عن رؤية فقهية ، بل بيانات سياسية بحكم الامر الواقع في العراق المأزوم ،وتارة لان بعض الاسلاميين لم يستسغ ان تكون نظرية الدولة خارج المدونة الفقهية التي تربى عليها .
(ملاحظة جميع اراء ونصوص السيد السيستاني مأخوذة من خطب الجمعة وماجمعه حامد الخفاف في كتاب (في المسألة العراقية ،2017 ط 7 ).
ــــــــــ
https://telegram.me/buratha