د. أحمد جمعة البهادلي* ||
لا نشك أبدا بأن المجتمع الهادف الذي أسس لمفهوم الحضارة الأولى في العالم، وهو المجتمع العراقي، أنه يعاني اليوم من تخبط ثقافي وفكري أفقده هويته، وهو بالتالي فقدان مبرر إزاء ما فعلته منظومة حزب البعث الكافر، وعدد من الحروب والأزمات المفتعلة التي لم يمر بها أي مجتمع آخر بمثل ما مررنا به.
كما نعتقد بأن الشباب في العراق يمتازون عن غيرهم بمسألة (الطموح المفقود)، فليس للشاب من رسوخ ثابت لأن يصبح في المستقبل (طبيبا أو مهندسا أو فنانا) فهو يريد أن يكون كل شيء، وأغلب الشباب لازال لا يعرف من هو بالتحديد، وأحيانا نفاجأ بأن الطموح مجرد ترتيب أولويات يسردها الشاب تبعا لأولويات الجانب الاقتصادي وتوجه الحكومة بالاهتمام على هذا القطاع أو ذاك.
فمثلا قائمة ترتيب الأولويات عند الشباب في عقد الثمانينيات هي غيرها في عقد السبعينيات، وتختلف عنها عند الشباب الحالي، فأي شاب تسأله ماذا تريد أن تكون؟ . فإنه يتلو عليك مجموعة طموحات سمع في بعض المجالس الخاصة أو العامة عنها بأنها تدر أموالا كثيرة، ففي السابق في مدة البعث الكافر، كان توجه الحكومة توجها عسكريا، لذلك كان أغلب الشباب يحلم أن يكون عسكريا تطرز كتفه عدد من النجوم اللامعة التي قطفتها السلطة من سماء تضييق الحريات وتكميم الأفواه، بينما في الستينيات كان الشاب يسطر في مجموعة أولوياته أن يكون (معلما)، لما أمتلكه المعلم حينها من منزلة اجتماعية رفيعة ومرتب عالٍ، بينما كان الشرطي يوصف بأنه (ساقط) اجتماعياً، فهو تبدل في أولويات الطموح تبعا لرعاية السلطة.
أما الشباب اليوم، فإنه يبحث عن أية فرصة عمل أو أية وظيفة، وليس مهما أن يكون طموحاً او يحقق طموحه، بقدر ما للوظيفة من أهمية ذرائعية عنده، ولذلك حصل ما حصل من تدهور واضح في بنية المجتمع، وعلى صعيد غياب الهوية في الوظيفة ذاتها إذ ضاع مبدأ العمل والخدمة العامة، أو على صعيد غياب الهوية والطموح عند الشباب العراقي، ولعل أبرز مظاهر التشويه الوظيفي، هو كثرة عدد الموظفين في أغلب مفاصل الحكومة، والعمل خارج حدود الاختصاص، حتى وصل الحال بنا لـ(بطالة مقنعة)، وحضور وظيفي غير منتج، أما بالنسبة للشباب فإن أبرز مظاهر التشويه لهذه البنية الاجتماعية الحية فهي: سعي الشباب للحصول على أي وظيفة وبأي ثمن، وإن كانت فرصة عمل (فضائية) أو غير أصولية.
إن المجتمع قطعا لا يبنى بمثل هذه المراكز المتحركة والمشوهة، فمركز الوظيفة يجب أن يكون مركزا ثابتاً، كي ينتج، بمعنى أن العنوان الوظيفي يجب أن تحسب له كل آليات العمل، وهكذا ثبات مركز الشباب يكون في تنمية طموحه واستثمار هذا الطموح مستقبلا، ولعل أي دارس لبنية المجتمع الآن وبشكل فاحص، سيجد أن العامل الاقتصادي هو السبب وراء ضياع الشباب وضياع التخصص لديهم، بل وضياع القطاع الوظيفي ذاته. وكأن المجتمع العراقي اليوم يسير بخلاف تلك الأطر الواعية الكبيرة التي أنتجت حضارة الأمس.
إنه لشيء عجيب أن تجد خريجا من القطاع المهني (ميكانيك) ومن الدراسة المسائية أي أنه فشل في الدراسة الصباحية، تجده وكيلا لوزارة الصحة لأن السيد (الفلاني) رئيس حزبه، قد رشحه لهذا المنصب مثلا، أو تجد حاملا لشهادة الإعدادية أو الثانوية على رأس مؤسسة رفيعة جدا تعنى بالبحث العلمي، لأن فلاناً رشحه لهذا المنصب، أو تجد خريجاً لكلية العلوم الاقتصادية عاملا في مجال صيانة الكهرباء وبأجر يومي لأنه لم يحظ بعلاقة مع فلان هذا أو ذاك، وهكذا يزداد العجب عندما تشاهد حركة الشباب الخريج والمتخصص ومن الكفاءات أمام أبواب المسؤولين أو على صفحاتهم في قنوات التواصل الاجتماعي على الرغم من كون أغلب المسؤولين غير متخصص ولا هو خريج، شاهدت طابورا لتقديم طلبات التعيين أمام بيت أحد النواب، وهو بالكاد خريج الدراسة الإعدادية، وهو ينبه الجميع بأن العمل سيكون بأي قطاع حكومي، والشباب المتخصص يرد عليه: نقبل بالعمل حتى في مجال نزوج المجاري العامة، أو كزبالين لجمع النفايات، (مع شديد الأسف)، وهنا لا أشير سوى لمغايرة التخصص في العمل، ومن دون إساءة لأي قطاع يبغي خدمة المجتمع، وأشير لأهمية العامل الاقتصادي لدى الشباب الذي يدفعهم للحصول على أي وظيفة.. مجرد وظيفة.
يا سادة لقد أصبحت الوظيفة في العراق(بلا وظيفة)، هجين فقد محتواه الأدائي، أو هي محطة لكسب القوت الشهري، فقط، بل وهناك موظفين لا يعملون شيء ولهم مرتبات جارية، وهذه هي أول محطات تخريب المجتمع، فإن الشباب الذي يسعى للوظيفة ويدفع الأموال وبطرق غير مشروعة للحصول عليها فإنه شاب قد قتل مستقبل بلاده بيده، والمسؤول الذي يقبل بحضور الموظف لديه وهو باختصاص خارج إطار وظيفته فإنه قد قتل مستقبل بلاده بيده.
بل وهناك الأفظع، فقد أصبحت حركة الوظائف مرتبطة بالحضور السياسي، إذ لطالما شهدنا حملات التعيين التي تقضم مستقبلنا من عدد من الجهات السياسية القابضة على السلطة !.
حتى أخذ الفرصة من أخذها لتعزيز اقتصاد بعض الشباب من اتباع هذا الحزب او ذاك، بينما تم تخريب المستقبل بمثل هذه التصرفات اللاستراتيجية بل وتم تخريب الشباب ذاتهم.
شبابنا اليوم ساخطين على العمل السياسي لذات السبب الاقتصادي، فالعامل الاقتصادي هو الذي يدفعهم لمثل هذا السلوك النافر من العمل السياسي، بل ويعتقدون أن العراق لم يعد المكان المناسب لتعزيز قدراتهم وطموحاتهم، لذلك فلا بد من حلول واقعية تنقذ البلد، ويكون فيها عدد من المرتكزات لاحتضان الشباب وتنميتهم بما يعزز مستقبل البلد وازدهار اقتصاده ونموه اجتماعياً وفقاً لمساره الحضاري.
قطعا الحلول لا يمكن لها ان تكون حلولا ارتجالية، وإلا فالارتجال له عواقب وخيمة، فكثير من المواقف الارتجالية قد كبدت المجتمعات الكثير من الخسائر ولعل من أبرز هذه الخسائر هو منح الوظائف بناء على تظاهرة تقام هنا أو هناك، ليأتي المسؤول الذي سيغادر منصبه قريباً فيمنح الدرجات الوظيفية وبلا خطة وبلا استراتيجية، بينما يبقى عبئ آلاف الموظفين الذين حولهم توقيع سعادته الموقر إلى عاطلين بأقنعة حكومية.
وعليه فان أحسن الحلول هو النظر الى المأساة بواقعية، وترك الاهواء والامزجة الفردية والشخصانية، فالبلاد لا يمكن لها ان تبنى بلا اعتماد على الشباب او بلا حركة اقتصادية علمية او تمازج اجتماعي رسالي.
وسأوضح في المقال التالي بعض ملامح الحلول واهم الإمكانيات لتحقيقها إن شاء الله تعالى.. فترقبوا.
*أكاديمي وسياسي
https://telegram.me/buratha