كاظم الخطيب ||
يأبى العقل البشري إلا أن يبلغ الكمال، وتأبى الخرافة إلا أن تكون آفته الأكول، وبين هذا وذاك، كانت ملاحم فكرية، ومطارحات فقهية، و مراجعات عقائدية، ومساجلات وجودية، أفضى أغلب ذلك إلى وقائع دموية، وإنقسامات مذهبية، وتصفيات جسدية، فضلاً عن ضياع أجيال، وإندراس مفاهيم، وتجهيل أمم.
النور دأبه أن ينبثق من الداخل، ومن سجاياه أن يكون سخياً كريماً، نقياً مستقيماً، والجوهر كفيل ببيان ماهيته، وهو على مراتب عدة ووجوه متعددة : فمنه نور ذاتي، ونور مكتسب، ونور خافت، ونور لافت.. فأما النور الذاتي، فهو النبوغ والمبادرة والإبداع، وأما المكتسب فهو ما يحاكي الأنوار الذاتية بريقا ولمعاناً، وما يجاريها عطاءً وإبداعاً، وأما الخافت، وهو الأعم الأغلب؛ ذاك هو الذي يمتلك الضياء محتوشاً له، محتفظاً به لنفسه لا يشرك به أحداً، وأما اللافت منه، فهو الجرأة على الباطل، ونصرة الحق، وتنوير الجاهل، وتنبيه الغافل.
ثلة من صناع القلم، وندرة من أرباب الكلم، ورهط من دعاة الفطنة والفهم، ممن شحذوا الأقلام والهمم، للغور في غياهب الظُلم، وكشف مخابئ البُهم، رجال أفذاذ، بأنوار ذاتية لافتة، شأنهم النور، ودأبهم التنوير، صدحت ضمائرهم بالحق، وجبلت نفوسهم على الصدق، لا يثنيهم اللائم، ولا تزدريهم الشتائم، ولا تغريهم الولائم، تاقت نفوسهم إلى الخلود، بحثوا في كل ما كان مسكوتٌ عنه، وجل ما يستراب منه..
صيروا ما كان خفياً، ظاهراً واضحاً جلياً، وإنتَصَّروا لمظلومية الأحداث، ونبشوا الدفائن والأجداث، وعالجوها بمشرطِ ماهر خبير، ذو مكنةٍ وجوهر منير، وكشفوا من الخبايا الكم الكثير، وهم بذلك إنما ينشدون الهداية إلى نهج قويم، وصراط مستقيم.
تزكية النفس، هي الخطوة الأولى، والعتبة الأدنى؛ لسلوكِ ذانكما النهج والصراط، وذلك من خلال تنقية الجوهر من رواسب التراث المتخم بالزيف والإفتراء، والدسِّ والإنتقاء، والوصول بها- النفس- إلى ذروة من التجرد الذاتي، والكمال التعاملاتي، مع جميع مفردات التراث، غثها وسمينها، ضعيفها في السند ومتينها، ولابد من الأمانة العلمية، عند البحث والتحليل، أو الجرح والتعديل، فالأمانة هنا إنما هي مسؤولية خطيرة، وثقة جديرة، وهي قبل ذلك كله، أمانة في أعناق السالكين لهذا السبيل.
الخلود هو جائزة الصادقين، وهو الإمتداد اللامتناهي من الذكر الجميل، والأثر الجليل، والتأثير الجزيل.. وإنه لمن صحيح القول هو: أن تترك صدقةً جاريةً، وأثراً طيباً، خير لك من أكوام من ذهب تُضرب بالفؤوس، حتى تَمجُلَ منها أيدي الرجال.
كانت الأمة ومازالت أمانة في أعناق الصالحين، وضمائر المؤمنين، أولئك الذين صلحت إنسانيتهم قبل أن يصلح إيمانهم، وصدحت قلوبهم قبل أن تصدح أقلامهم، إنهم رجالُ صولةِ التنوير، من الذين حملوا مشاعل الحقيقة في كل زمان ومكان، لتضيء دروب التائهين، وتلقي بأنوارها على زوايا الظل والتظليل، وتشير بضيائها إلى مكامن الحجة والدليل، إنهم رجال نذروا أنفسهم، ووقفوا أقلامهم، لخدمة الأمة وصيانة إرثها وتراثها مما قد يشينهما، من نتاج أقلام أجيرة، ودسائس ضمائر حقيرة، وفي زماننا هذا نخبة طيبة من هذه الأقلام الرائدة، أكاد أن أشير إليهم بالبنان، بيد أنهم أوضح من ذلك وأبين.. فإنهم رجال ينهجون للخلود سبيلاً.
https://telegram.me/buratha