عبدالزهرة محمد الهنداوي ||
· امجد توفيق، يحجب ثقته عن كل رصاص العالم، ويحرق بجمر أسئلته كل الإجابات
هل باستطاعة المرء ان يطمئن للرصاصة، ويمنحها ثقته المطلقة؟!!
نعم، سيكون ذلك ممكنا، لو كانت الرصاصة الباحثة عن الثقة، قادرة على لجم شهيتها في اختراق لحمٍ حي..
وسيكون ذلك ممكنا أيضا، فيما لو استطاعت مصانع الحرية في العالم من انتاج رصاصة يمكنها ان تميز بين المجرم والبريء.. بين الرجل والمرأة..بين الطفل والشيخ.. بين الحق والباطل..
لذلك فان إمكانية منح الثقة لمثل هذه الرصاصة، ربما تمثل حالة من البلادة، وهذا غير ممكن بالتأكيد، فالذاكرة مازالت متخمة برصاص، لم يتنكر لطبيعته، وهي الرغبة في القتل!!، أبإمكان المرء ان يمنح ثقته لمن يريد قتله؟!!.. كلا بالتأكيد، وإلا كان ذلك الجنون بعينه..
هكذا يزجنا الروائي والقاص والناقد امجد توفيق، في اتون حواراته، المشبعة بالنصوص الفلسفية، عبر مجموعته القصصية الجديدة (الخطأ الذهبي)، التي صدرت مؤخرا عن "دار الصحيفة العربية" في بغداد، وهي المجموعة القصصية الخامسة له، بعد "الثلج.. الثلج" و"الجبل الابيض"، و"موسيقى الحواس والغرائز" و"قلعة تارا"..
وفي "الخطأ الذهبي" بقصصها الاثنتي عشر، فقد نحى الكاتب الى الجمع بين الاسلوب القصصي والروائي، بحبكة درامية عالية، ومؤثرة جدا، فهو يخوض، في تلافيف النفس الانسانية، سالكا طريق الاخطاء الذهبية، التي يمكن للانسان، ان يرتكبها، ولكنها تسمو به الى مصاف العظماء، فهي في حقيقتها ليست اخطاء ترابية، ولكنها تبدو كذلك في نظر الآخرين، وينبغي محاسبة مرتكبها!!وتحفل صفحات التاريخ باسماء رجال ونساء، غيروا مجريات ومسارات الاحداث، بعد ان وُوجهوا برفض واسع، من قبل مجتمعاتهم، ولكن فيما بعد ادركت تلك المجتمعات، صحة ما دعا اليه هؤلاء العظماء :"فعندما تخطيء، فليكن الخطأ كبيرا وأصيلا وعميقا.. خطأ يشبه اخطاء أولئك الرجال العظام الذين توحدوا مع قدورهم، وقرروا ان يمضوا في طريقهم دون إسناد او محطات راحة ..أما الأخطاء الصغيرة التافهة فلا يليق برجل ذي نفس كبيرة ان يرتكبها.. انه الفرق بين الخطأ الذهبي والأخطاء الترابية التي تنفضها هبّة ريح.."
في "الخطأ الذهبي"، لم تكن العلاقة بين قصص امجد توفيق، ذات نهايات سائبة، بل يظهر جليا ان ثمة ربط موضوعي، بينها، من القصة الاولى "شهادة ضاحكة" ، الى القصة الاخيرة "الخطأ الذهبي" التي اتخذ منها عنوانا للمجموعة، ولعل فكرة الرصاصة كانت هي الاكثر ظهورا في مجريات الاحداث..
يقول الطبيب للسياسي في حوار اكتنفته حالة من البلادة في بعض مفاصله"الامر يشبه الى حد ما امكانية معرفة وضع رجل اخترقه الرصاص.. هل هو بطل ام جبان؟، هل هو شهيد ام مجرم؟" .. ووفقا لهذا الحوار فقد بقيت كل الاحتمالات مفتوحة، وبقي امجد توفيق، محتفظا باسئلته الكثيرة، الحائرة، وهو يخشى عليها من الموت برصاص الاجابة، خشية تستند إلى إيمانه المطلق، بان الاجابة تقتل السؤال، كما ان الجسد يميت الرصاصة!!
يحاول القاص امجد توفيق، في "الخطأ الذهبي" ان يمازج بين يوميات مدينة، مازال ليلها بلا عيون، فيستعين بفوهات البنادق اللامعة عيونا له، فوهات طرفة عيونها رصاص غير موثوق بصحبته لانه اعمى، فيثير الفزع..وبين اصرار الحياة على المضي نحو المستقبل، وان كان هذا المستقبل مثل عجوز شمطاء،.. الحياة التي تعطي ظهرها لحروب تبدأ ولا تنتهي "حروب متداخلة كأنها معارك متواصلة في ظل حروب ابدية ... لحروبنا لون اخر ومذاق اخر، لاينتميان للالوان والمذاقات المعروفة، والحروب لاغيرها من يقطف الاعمار ويضيف الشقاء الى اعمار من ينجو منها، للحروب مهمة قتل السعادة، وقتل الحياة" ولكن لن يكون بامكانها قهر اجمل لحظات الحياة، تلك اللحظات التي تجمعنا بمن نعشق..
ووفقا لنظرية المكابس، يغوص توفيق عميقا، بحثا عن تفسير لسلوك الانسان الذي ابتكر المكابس ، وراح يهاجمها بعد ان ناشه فعلها ! ثم يتساءل بمرارة : أيعمل الانسان ضد نفسه؟!! ولعل هذا السؤال الوحيد الذي قتله امجد توفيق، برصاصتين، الاولى، عندما عدّه سؤالا ساذجا!! والثانية ، رصاصة الإجابة، فيأتي تصريحه، ان كل حروب الانسان على الأرض، تثبت ان هذا الكائن يعمل ضد نفسه، بارادته!! ثم بعد ذلك ترتفع عقيرته، مطالبا بحقوقه ، ويبحث عمّن يحميه من كبس المكابس!!
كان امجد توفيق، في "الخطأ الذهبي" يتنقل بين محطات قصصه، برشاقة مثل طائر حقيقي لايعرف اي ارتفاع سيحققه في يومه، ولا على اي غصن سيحط، ولايعرف عدد الفوهات التي تصوّب نحوه بهدف قتله، لا لسبب الا لكونه طائر حر وحقيقي، وهو بهذا التحليق الحر ، يسبح في فضاءات الثقافة الواسعة، تلك الثقافة التي تمنح السياسي قوة، لانها تعطي برامجه مصداقية وعمق، وكأنه يوجه دعوة للساسة، بضرورة ان يكونوا مثقفين ، لكي تكون برامجهم عميقة وصادقة!! والثقافة تمنح صاحبها خيارات كثيرة، يكون معها قادرا على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
ان من يقرأ "الخطأ الذهبي" سيتوقف طويلا في محطاتها المتعددة، متأملا جمال النص وجزالة اللفظ، وخفة ورشاقة المعنى، وعمق الفكرة، وإبداعه للكثير من المقاربات التي تجمع بين الأضداد، من قبيل "الليل والنهار، الحب والكره، المرأة والرجل، السؤال والإجابة، الرصاصة والحياة"، يجبرك على البقاء معه مارا بمحطاته، مستزيدا من أخطائه الذهبية، متأملا في سلوكيات ابطاله، مستنبطا الرسائل التي كان يبثها عبر سخونة الحوارات بين الأبطال، ولعل محطة "المسبحة السوداء" واحدة من المحطات التي استوقفتني طويلا، لما تضمنته من رسائل عميقة ومؤثرة، وكذلك الحال مع باقي المحطات القصصية، المليئة، بالحب والثقافة، والإصرار على قيد الحياة.
ـــــــــ
https://telegram.me/buratha