المقالات

أمراض الفيسبوك..!


 

د. علي المؤمن ||

  

أصبح الفيسبوك وعموم وسائل التواصل الاجتماعي متنفساً للجميع، بصرف النظر عن أهداف كل شخص، وزاوية نظره لهذه الوسائل، وهو متنفس حقيقي يشبه الصراخ في الغرف الموصدة، الذي ينصح به بعض أطباء النفس، لكي يحس الإنسان المتورم نفسيا بالراحة.

   قبل عقود من الزمن كانت النشرة الجدارية هي متنفسنا الوحيد، ثم انتقلنا الى متنفس المنشورات السرية، ثم الكتابة على الجدران. وفي المهجر كانت الجريدة والمجلة هما القناة التي توصل صوتنا الى الآخرين. لكن مواقع التواصل، سيما الفيسبوك، تختلف عن الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية، في قدرتها على تعميم الرأي ونشره، مهما كان تافهاً أو عميقاً بنظرنا؛ لأن كل من يستطيع النقر على الكيبورد بات بامكانه إيصال صوته.

   أتذكر في مطلع الثمانينات؛ حين كنا نمتهن الكتابة والصحافة في مجلات وصحف وإذاعات المعارضة؛ كان عددنا لايتجاوز الأربعين كاتباً، مقابل مئات الآلاف من قرائنا ومستمعينا. وقد كنا الوحيدين القادرين على التعبير والتنفس عبر الجريدة أو المجلة أو الإذاعة، ثم التلفزيون في مرحلة لاحقة. وكان الآخرون، الذين يريدون أن يوصلوا أصواتهم الى الناس، يطلبون منا أن نكتب عن هذا الموضوع ونتحدث عن ذلك الحدث. أي أن الصحافة والإعلام والكتابة كانت ميزة، وكانت احترافا ومهنة، بل كان في الكتابة قدر كبير من الخوف والرهبة والاحترام.

   أما الآن فقد انقلبت الأمور رأسا على عقب، إذ بات الجميع يعبّر للجميع، وهو حق مشروع في الأساس، لكن المشكلة هو اختلاط الحابل بالنابل، وتساوي العالِم والجاهل، بل باتت الكتابات الأكثر مشاكسة والأقل عمقاً والأضعف لغة، هي الأكثر تأثيراً وانتشاراً وتفاعلاً من الكتابات المهمة العميقة.

مثلا: كاتب معروف ينشر مقالاً مهماً رصيناً على الفيسبوك، بلغة احترافية ومنهج علمي، وحول قضية حيوية، وتأخذ كتابته عدة ساعات أو أيام من وقته، لكنه يستقطب بضع عشرات من الإعجابات وتعليقات قليلة، قياساً بشخص آخر مبتدئ، ينشر جملة واحدة بسيطة جداً، لاتأخذ من وقته دقيقة واحدة، لكنها تجلب مئات اللايكات والتعليقات، وتصل المبالغة أقصى حدودها حين تكون كاتبة الجملة بنت.

   ما أريد قوله: أن الفيسبوك حطّم أغلب المعايير التقليدية في النشر، وأبرزها:

1- مستوى الكتابة ومستلزماتها البديهية، كاللغة وقواعدها، والاملاء والبلاغة، والفكرة وهيكل الموضوع، وحجم المنشور.

2- مساحة النشر العام؛ فبات المنشور ( البوست)، بصرف النظر عن مستواه، يصل الى آلاف، بل ملايين الناس، في كل زاوية في العالم، بينما كانت الكتابة محتكرة مهنياً ومحدودة جغرافياً.

3- مقياس التفاعل؛ فقد بات التفاعل مباشراً وفور النشر، عبر تسجيلات الاعجاب والتعليقات والرد والرد المباشر، وبصورة لا قيد ولا حد لها.

4- قدرة التأثير الاجتماعي؛ إذ باتت منشورات الفيسبوك، بصرف النظر عن كتّابها ومستوياتهم، قادرة على التحريك الاجتماعي بصورة هائلة، بما يوازي الخطب الحماسية التي كان يلقيها القادة وسادة المنبر.

5- ضياع المعايير الاخلاقية؛ فقد كان حجم قدرة الكاتب على التضليل والكذب والاختلاق والافتراء أقل بكثير جداً في عصر الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية؛ مما يحصل الآن في عصر الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي. فالكذبة اليوم، وإن كان صانعها ومطلقها إنسان بسيط؛ فإنها تنتشر خلال بضع ساعات، كالنار في الهشيم، وبجميع اللغات، والى كل زوايا الكرة الأرضية. وخلال نشرها وتعميمها، يندر أن يتوقف الناقلون عند التدقيق فيها وتمحيصها؛ إذ لا وقت لديهم ولا صبر، لأن ملايين البوستات تنشر يومياً، وأغلب الناس يستمتعون في نقلها وتعميمها، بل يتسابقون. وكلما كبرت الكذبة والإساءة؛ كبر معها حظها في سرعة الإنتشار وحجمه .

   ولاشك عندي؛ أن أطباء النفس وعلماء النفس الاجتماعي سيعلنون قريباً عن أمراض شخصية واجتماعية اسمها أمراض الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك