د محمد القريشي ||
في برنامج تلفزيوني يعتمد اسلوب الاستفزاز، سألت اعلامية فرنسية احد المفكرين : ما ذا افعل كي أثير اهتمامك، فاجابها بسرعة : وجهي لي سؤالا ذكياً!... جوابه هذا، انبثق من بيئة "التفكير النقدي" التي نشأ فيها وحصل على علومه بين ثناياها..
اتبع سقراط طريقة التفكير النقدي مع تلامذته،عندما كان يولد الأفكار و يعلمهم كيف يصلون إلى الحقيقة عبر التدقيق في الأمور وإعمال العقل فيها، بعيدًا عن أي تحيز او حكم مسبق على الموضوع.
يتضمن التفكير النقدي ثلاثة أشياء متسلسلة، هي :
⁃ التفكير بطريقة مدروسة ومتجردة وبعيدة عن العاطفة في المشاكل والمواضيع التي تقع في نطاق تجارب المرء.
⁃ ومعرفة طرق الاستفسار عن الحلول وتحليل العوامل المؤثرة بالموضوع وفق المنطق .
⁃ واخيرا التمرس على مهارات تطبيق تلك الأساليب...
بعبارة ادق يستدعي التفكير النقدي فحص أي فكرة او ظاهرة او شكل في ضوء الأدلة والاستنتاجات المعروضة.
ولكن ما هي فائدة التفكير النقدي بالتحديد ؟
يثير التفكير النقدي غريزة الفضول لدى المرء ويساعده على اكتساب فهم أعمق لجل الأشياء المحيطة به واستيعاب العالم بشكل دقيق ومفيد، وبهذه الطريقة، يضع التفكير النقدي العالم بين يدي المرء، بدلا من ان يكون المرء مكوناً عادياً من مكونات هذا العالم...
المفكرون الناقدون، فضوليون بطبيعتهم، وهم متيقظون دائمًا فتراهم يحفرون في أبسط الأمور التي تواجههم .والتفكير النقدي، يعزز مهارة الإبداع لدى المرء ويزيد قدرته على حل المشاكل،والمبدع، دائمًا ما يتساءل عن عدد من الافتراضات حول أشياء ومعاني كثيرة تواجهه في الحياة .
يقول ألبرت أينشتاين في هذا الصدد، إن أحد أكثر المفكرين الناقدين قال ذات مرة، إن براعته لا تكمن في كونه ذكيًّا جدًّا، بل في كونه يحول الظواهر التي تواجهه الى مشاكل يعاني منها ويتأمل في حلولها، لدرجة تجعله يقضي خمس دقائق لاكتشاف الحل لمشكلة معينة، و يقضي 55 دقيقة أخرى لتحديد المشكلة والبحث عنها...
حضرت اول مناقشة بحث علمي في عام ١٩٨٦، لباحثة فرنسية عرضت رسالة "دكتوراة دولة" امام لجنة علمية رفيعة المستوى، ولفت نظري اعتراض احد الاستاذة الكبار على عملها وعبارته القاسية التي وجهها لها حين قال ( لم تكوني "متمردة" في عملك)!
حينها, علمت كيف يكون "التمرد" من خلال التفكير النقدي، مفيدا في صنع المنجزات وايجاد الحلول للمشاكل والعثرات...
في احد الايام رافقت وفدًا دبلوماسيًا يزور احد مؤسسات الدولة، وخلال جلسة نقاشية بحضور الوفد، تحدث احد المدراء عن صعوبة المرحلة من الناحية الاقتصادية التي تمر بها المؤسسة, بسبب ظروف التقشف التي فرضتها الحرب على داعش، ملتمساً من الوفد معونات تقنية لمؤسسته، ولا يهمه ان تكون مستخدمة... وفي نهاية الزيارة، سألت الدبلوماسي عن رأيه بطلب هذا المدير، فابتسم قائلا : يطلب منا ان نعاون مؤسسته في وقت التقشف، بتقنيات لا تتجاوز قيمتها مبلغ ال ٢٠ مليون دينار، في الوقت الذي لا يتنازل هو للمؤسسة عن سيارته التي تبلغ قيمتها حوالي ال٨٠ مليون دينار!...
هذه الفجوة بين "التفكير الانسيابي المترهل", الذي يتميز به المدير، والتفكير النقدي الذي تميز به الدبلوماسي، هي التي تفسر ( بدرجة كبيرة )، التباين بين الشعوب الدائرة حول نفسها والشعوب السائرة الى الامام !
الشعوب التي تعيش في كل لحظة، قلقاً جمعيا يعينها في صنع مشروع جامع، تبدع بواسطة " التفكير النقدي" والشعوب "المسترخية " بغياب هذا النمط من التفكير، تنتقل من ازمة الى اخرى !
ـــــــ
https://telegram.me/buratha