د.جهاد كاظم العكيلي *||
لايزال تصريح دولة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، يثير جدلا واسعا بين الاوساط الثقافية والمهتمين بالشأن الحضاري العراقي، حين أعلن لدي زيارته الكويت مؤخرا، "أن كثير من التاريخ الذي يقرأ في العراق جاء من الكويت"! .. وسط إنتقادات بدأها مباشرة السفير العراقي لدى الكويت، حين قال، أن "تصريح الكاظمي لم يكن في سياقه الصحيح" ..
ومع ردات فعل مماثلة لانتقاد السفير صدرت عن الكثير من الاوساط الثقافية والمهتمين بالشأن الحضاري العراقي معتبرين أن تصريح الكاظمي هذا يُعد مهزلة في هذا الزمن ، إلا أن مصدر مُقرب من الكاظمي كذَّب ذلك وقال "أن بعض وسائل الاعلام تعمدت تحميل تصريحات الكاظمي أبعادا معينة لا علاقة لها بالتصريحات ومضمونها" ..
وحول سياقات الانتقاد والتكذيب وردات الفعل الاخرى إزاء تصريح الكاظمي هذا، أقول أن لا أحد ينكر التاريخ المشترك بين العراق والكويت، ناحية النسيج المجتمعي والانساني وحتى الموروث الشعبي بين البلدين الشقيقين وعمق الاواصر والروابط التي يتميز بها الشعبين عن سواهما من الشعوب الاخرى، ويقينا لا أحد ينكر من أن اول حرف كُتب في التاريخ خرج من العراق قبل أكثر من سبعة الآف سنة، والعراقيون هم أول من علَّم شعوب المعمورة برمتها الكتابة والقراءة، بعد أن نقل السومريين الكلام إلى كتابة، لذا فإني أرى إنه ليس من الاهمية بمكان إيلاء أي تصريح يصدر عن أي مسؤول يخالف الحقيقة، ذلك أن العراقيين تعودوا على إطلاق تصريحات مماثلة من قبل بعض المسؤولين، ومنها للطرفة ما قاله البعض من هؤلاء "أن دجلة ينبع من إيران" ، ومن "أن الفرات يمر في مصر! ..
وفي مقال سابق كُنت قد تحدثت عن التاريخ العراقي بمورثه الحضاري ضمن مقال موسوم (الحضارة المسروقة)، وأشرت في مضمونه إلى أهمية أن يلتفت المعنيين بهذا الموروث إلى حجم الكنوز والتحف واللقى الاثرية المخطوطة التي تمت سرقتها في زمن الاحتلال الامريكي للعراق او تلك التي دُمرت على أيدي ضعاف النفوس من العراقيين، وممن تعاونوا مع مافيات محلية ودولية لتهريب الكثير منها خارج العراق ..
وقلنا، الحمد لله، لا يزال هناك شيء نتحدث به للتاريخ والاجيال المقبلة في أن نثبت من أن العراق يمتلك حضارة عريقة تمتد لإلآف السنين قبل الميلاد، وفي مقدمتها، كيف تعلمنا وعلمنا العالم الكتابة والقراءة بأنواعها، على أيدي صُناع الحضارة السومرية والأكدية والاشورية والبابلية والعربية، ولا تزال هذه الحضارة حاضرة وشاخصة في متاحفنا الموجودة، وقد علَّم العراق أبناء المعمورة عبر سلسلة من مراحل التاريخ العربي هذه الحضارة، لكنها تعرضت عبر حقب زمنية إلى النسف والتشويه وتحريف أصولها من قبل جهات ومصادر لا تعرف او تعرف وتتقصد ذلك، وفي مقدمتها جهات سياسية وبدراية او من دون دراية او غير ذلك، وهذا ما يدفعنا للقول أننا نعيش مرحلة تجزئة الحضارة العراقية وبأدوار حسب تسلسل زمني مرسوم ومحسوب حتى ضاعت او توزعت معظم آثارنا في متاحف وأسواق العالم بسبب السرقات المنظمة وتعاون جهات سياسية بتهريب الآثار خارج البلاد ..
ومن المعروف أن تاريخ العراق الحضاري القديم كان قد شهد مركز الحضارة السومرية وأور والوركاء وأكد العاصمة الرئيسية ..
ومن المعروف أيضا أن من إخترع الكتابة هم السومريون أهل الجنوب ثم جاء سرجون الأكدى ليفرض سيطرته على الفرات وبلاد الشام وبلاد عيلان وجنوب الاناضول مكتسحا الخليج، وبذلك تم إعتماد الكتابة المسمارية التي إخترعها السومريين، وبقيت هذه الآثار شاخصة وشامخة بعناوينها وأصولها المعروفة ..
وقد تعرض العراق لسلسة من التدمير والاحتلال عبر التاريخ، ولم يشهد مثلما شهده خلال العقدين الاخيرين من الاحتلال الأمريكي للعراق، إذ نرى أن المحتل الامريكي وضع للعراق أسس مدروسة لمسح الحضارة العراقية لا يصدقها العقل والمنطق، في الوقت الذي شهد العالم للعراق، كيف أنه علَّم العالم الكتابة وأول من شرع وسن القوانين وأول من أنشأ وشيَّد المدن والزقورات، وكيف إبتكر الصناعات والفنون وما سواها من منجزات أخرى، وذلك ما يشهد له علماء الشرق والغرب وتأكيداتهم من أن العراق مهد الحضارات ..
والمختصون في الشأن الحضاري والتراث وحملة الاقلام الوطنية مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالمحافظة إزاء تاريخ وحضارة العراق، تماما مثلما يحافظون على أبنائهم، وإعتبار ذلك ضرورة وطنية ملحة ومهمة للغاية ..
/ *كاتب عراقي
https://telegram.me/buratha