حافظ آل بشارة ||
سواء كان الاعلام اعلام احتلال او اعلام مقاومة او اعلاما انتهازيا ففي كل الاحوال كانت الهيمنة الأكبر للمتلقي عندما اصبح صانعا للرسالة ، وقد تضائل دور المؤسسة الاعلامية الرصينة .
كان الاعلام في القرن الماضي يلبي ميل الناس الى المعرفة وحاجتهم الى متابعة ما يجري وعبر هذه الخدمة يعمل ويرسخ وجوده ، لكنه ينجز دوره من خلال مؤسسة متخصصة ذات رسالة واهداف واسلوب محدد في صناعة الخبر والتحقيق والتحليل والمعلومات والرأي ثم بلورة موقف بمستوى عال من المهنية والتخصص ، لذلك اشتهرت وكالات انباء واذاعات وصحف وقنوات تلفزة دون غيرها لتميزها في اداء دورها الخبري والمعرفي شكلا ومضمونا ، وخلف كل وسيلة اعلام ناجحة تقف دولة قوية ، او حزب عريق ، او مؤسسة قوية ، وكانت وسائل الاعلام تسعى الى اعادة بناء ثقافة المتلقي كما تريد لكنها ايضا تحترم دوره وقناعاته وتنتظر نقده وتقييمه ، اما اليوم فقد مثلت شبكة الانترنيت ثورة رائعة في مجال التواصل والنشر وتداول المعلومات ، لكن من ناحية الاعلام الالكتروني نجد ان الأمور تسير باتجاه مختلف ، فقد جاء هذا التحول متزامنا مع ظهور اجيال من البشر لا تهتم بالمعرفة ، ولا تهتهم بما يجري ، وهناك وسائل مسخ أخرى موازية احدثت هذا التغيير في اهتمامات البشر ، فاختفت ثقافة النخبة وظهرت بقوة ثقافة القطيع ، واخذ النت يستولي على مساحات الاعلام المهني ويقلب معادلة الارسال والتلقي ليتحول الى اعلام يصنعه المتلقون ، ولأن المتلقي ليس متخصصا ولا حياديا فهو ينتج رسالة اعلامية متدنية شكلا ومضمونا ، فظهرت الفوضى الاعلامية ونشأت صفحات الاثارة والكذب والمبالغة وهكذا فقد الاعلام الالكتروني اغلب عناصر المصداقية ، واذا عدنا عشر سنوات الى الوراء نتذكر ان ظهور الاعلام الالكتروني كان مفاجأة ، خاصة وان الصحف الورقية بدأت تنهي مسيرتها لتتحول الى الصحافة الالكترونية بعد تدني مبيعاتها اليومية ، ولكن الصحافة التقليدية الاصيلة لم تنجح كثيرا في التحول الى النشر الالكتروني وفقدت اغلب جمهورها ، ولم يبق من الصفحات صاحبة المصداقية سوى بعض مواقع المقالات والرأي وبعض مواقع المعلومات الموسوعية خاصة عندما بدأت منصات التواصل الاجتماعي تنمو وتتسع ، اما اليوم فنشهد مفاجأة معاكسة تتمثل ببدء التراجع في شعبية صفحات الاعلام الالكتروني ، فقد اكتشف الجمهور ان هذا النوع من الاعلام لا يمكن ان يستمر ، لأنه ليس اعلاما بالمعنى المهني الذي هو علم وفن واختصاص ، وعندما يأتي الاعلام الالكتروني ليتجاوز هذه الشروط البنيوية فهو سيفشل بالتأكيد ، حاليا تدحرجت سمعة التواصل الالكتروني الى الحضيض حتى اصبح النت يوصف بأنه مكب للنفايات ، فاخذ المثقفون والباحثون عن الاخبار والمعلومات والتحليل والمعرفة يعودون الى شراء الصحف والمجلات المطبوعة ويستمعون الى الاذاعات العريقة على الموجات المتوسطة والقصيرة ، عادوا يبحثون عن الاعلام الذي تقف خلفه مؤسسات متخصصة وليس الاعلام الذي يصنعه اناس غير متخصصين .
لم يكن الاعلام الالكتروني وحده قد تراجع بل هناك كثير من الانشطة الانسانية التي جاءت بها الحداثة قد بدأت بالانكفاء والتراجع وعاد جمهورها الى القديم ، لم تعد مكاتب الرئاسة والوزارات والمؤسسات في كثير من الدول تستخدم شبكة النت لارسال او تسلم بريدها العادي لأنها تعده وسيلة غير آمنة ، وعاد الرؤساء والمدراء والمساعدون الاداريون يسجلون ملاحظاتهم بالورق والقلم .
حين نفكر بتطوير الاعلام فعلينا اولا تأطير المبادرة بشرط اساس هو العمل باسلوب المؤسسة التي يديرها فريق متخصص ، ومادامت الحرب حربا باردة فيجب تحصين الخندق الاعلامي وجعل كل القطاعات الاخرى في خدمته ، الاعلام هو المقاتل وهو صانع الثقافة والموقف وراعي المشروع السياسي وهو المدافع امام الهجمات الاعلامية فواجب على الجميع ان يفكروا في تطويره ويقدموا المقترحات والخطط بهذا الاتجاه.