د.أمل الأسدي ||
يبدو أن الخير قد زمّ شفتيه،وفتّح القحطُ أبوابه؛لتبتلع سكينة الفقراء وتغيِّب استقرارهم،ما أشد قسوة الجوع والحرمان!! وما أطول الليل علی المحتاج!!
قصور الخلافة منعّمة،وكبار القوم ورجال السلطة مترفون،أما الناس في مدينة المحبة فيسحقها الجوع،يشكون حالهم إلی رب السماء،ويزرعون نظراتهم فيها،ومازالوا ينتظرون صاحب القلب الرؤوف، القلب الذي يشعر بأمته ويتفقدهم،ويعرف شيعته فردا فردا!!
إنه الإمام الصادق(عليه السلام) الذي حدد ثلاثة أشياء يحتاج الناس طرا إليها :
"العدل،الأمن، الخصب" فلا يمكن أن تكون الحياة كريمة من دونها!! واليوم غاب الأمن،واختفی العدل، وغادر الخصب، وعمّ القحط المخيف،وأمسی يلاحق البسمات ويخمدها في مهدها!! موحش هو الفقر،يغيّر طبائع الناس،يطرق أبواب الغرائز النائمة،فيوقظها ويحثها علی تجاوز الأزمة بأية وسيلة!!
هنا كان الإمام يفكر في بيوت شيعته،البيوت الفقيرة، يفكر في الأطفال الجائعين،الشباب الذين يقفون علی حافة الاشتعال،الكبار الذين نخر الجوع والزمن آمالهم فأصبحت أيامهم بلا رصيد إضافي!!
نادی الإمام علی غلامه(معتب):
- هل لدينا قمح؟
ـ نعم ياسيدي،لدينا الكثير والحمد لله،لدينا ما يكفينا لشهور عديدة
صمت الإمام وعصر قلبه الألم،هل لديه قمح مكدس والناس يطحنها الجوع؟! ثم التفت الی معتب وقال:
- اعرضه في السوق كي يشتريه الناس،واشتر لنا شعيرا،فإني أكره أن نأكل الجيد من الطعام،ويأكل غيرنا الرديء!!
وحين أسدل الظلام ستاره،حمل الإمام الصادق كيسه المملوء بالأرغفة،وجال بيوت الفقراء،يضع حصصهم في الأبواب ويمضي ويبقی نوره مشعا بالمحبة، ولما تنفس الصبح وانتشرت الأفواه ساعية إلی رزق مقسوم،وجد المساكين أرغفة القمح الطيبة في أبوابهم،وشعاع المحبة يخترق ذواتهم،فعلموا أن الرجل السماوي قد زارهم،ذلك الرجل الذي يعرف شيعته ويشعر بهم،ويشاركهم آلامهم!!
رفع الإمام عينيه علی غلامه (معتب) وهو يحمل أكياس القمح متجها بها إلی السوق فقال له:
"الحكرة في الخصب أربعون يوما، وفي الشدة والبلاء ثلاثة أيام، فما زاد على الأربعين يوما في الخصب فصاحبه ملعون، وما زاد على ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون"
فانطلق(معتب) وهو يتقي اللعنات... انطلق وانطلق الزمن تاركا سيرة الإمام الصادق(عليه السلام) وهذه المشاهد التي تعكس تفاعل الإمام مع أمته وإحساسه بهم وبمعاناتهم وآلامهم!