حمزة مصطفى ||
لم يكن الكاتب الصحفي الأميركي توماس فريدمان أقل إستعجالا بالفرح من فرانسيس فوكاياما أيام التسعينات الذهبية لكليهما. كلاهما فرح بالنظام العالمي الجديد بعد إنهيار جدار برلين (1989) ومن بعده الإتحاد السوفياتي أوائل التسعينات من القرن الماضي, وحرب إخراج العراق من الكويت (1991). فبالإضافة الى ما بات يخطط له المحافظون الجدد الذين صمموا غزو إفغانستان (2002) والعراق (2003) كإحدى نتائج هجمات 11ـ 9ـ 2001 وسقوط البرجين, فإن كلا من فوكاياما وفريدمان نظرا لما اسماه فوكاياما "نهاية التاريخ" بإنتصار الرأسمالية وسقوط الشيوعية, وللعولمة التي نظّر لها فريدمان عبر كتابيه "العالم مسطح" و"السيارة ليكزس وشجرة الزيتون". طبقا لما أراد فريدمان قوله فإن من شأن العولمة أن تجعل الحمل والذئب يتناولان معا وعلى طاولة واحدة شطائر الهمبرغر في أحد مطاعم مكدونالد. ومطاعم مكدونالد مثلها مثل السيارة ليكزس أحد أبرز رموز العولمة التي كرست العالم بوصفه مجرد "قرية كونية".
وإستنادا لفرضية فريدمان فإن مطاعم مكدونالد لاتوجد الإ في الدول الديمقراطية التي جعلت النزاعات والحروب خلفها. النزاعات والحروب بالنسبة لفريدمان باتت فقط من حصة الدول المتخلفة. والدول المتخلفة طبقا لفريدمان هي تلك التي لاتوجد فيها فروع لمكدونالد. ومكدونالد بالنسبة لفريدمان ليست مجرد سلسلة مطاعم ذات ماركة عالمية شهيرة بل هي عنوان العالم المسطح الجديد الذي لايتقاتل فيه أحد على بضعة أشجار زيتون مثلما يختزل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائليين.
الآن وطبقا للأخبار الواردة من أجواء حرب القرم الجديدة (لا أقصد القرم التي ضمها بوتين عام 2014) بل حرب القرم في التاريخ التي وقعت في القرن التاسع عشر بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية حيث لم تكن آنذاك مطاعم عابرة للقارات والمحيطات, فإن مطاعم "مكدونالد" في موسكو وفي كييف بدأت تغلق أبوابها مثلما أغلقت أبوابها الكثير من الشركات والماركات العالمية في مختلف التخصصات بسبب الحرب ونتيجة للعقوبات.
ما الذي يمكن لفريدمان وهو كاتب العمود الشهير في صحيفة "نيويورك تايمز" قوله حيال ماحصل لأحد أبرز أيقونات العولمة مطاعم مكدونالد التي بدأت تغلق أبوابها في كلا البلدين؟ من يتوجب عليه الآن إعادة طرح أسئلة العولمة من جديد ومن يحق له الإجابة عليها في ظل عالم يسير بقوة نحو المجهول على أصعدة مختلفة؟ هل إستعجل فوكاياما في طرح فرضيات تتعلق بالإنسان ومصيره مثله في ذلك مثل فوكاياما الذي أنهى التاريخ بجرة قلم؟ هل النظام العالمي الجديد والعولمة التي هي إحدى أهم مخرجاته كانت بمثابة حتمية في التطور التاريخي أم مجرد حقبة زمنية قابلة للمراجعة والتقييم في مراحل لاحقة قد تطول وقد تقصر؟ كل شئ وارد لكنه لايمكن الجزم بالنهايات والبدايات طالما أن الإنسان مهما كانت رجاحة عقله وعمق تفكيره يبقى محدود التفكير والإدراك طالما "وفوق كل ذي علم عليم" و "وما أوتيتم من العلم الإ قليلا". فالعالم الذي أصبح "قرية كونية" وهو المصطلح الذي نحته عالم المستقبليات مارشال ماكلوهان لم يعد كذلك حين داهمته جائحة كورونا. والعالم لم يعد قرية حتى ولو كونية طبقا لماكلوهان أو مسطحا طبقا لفريدمان لمجرد أن تعولم على صعيد التقنيات والمقتنيات ووسائل التواصل بمن فيها الهواتف الذكية. فالعالم يمكن أن يحركه فرد لأنه يريد تحريك عقارب الساعة الى الوراء.والعالم حين يفكر بنقل الغاز من روسيا الى أوربا عبر أوكرانيا لايتحكم به هاتف ذكي بحجم الكف بل أنابيب تحتاج أساطيل لحمايتها ولكنها في المقابل لن تحتاج أكثر من زر لتدميرها لتعود ليس أوربا وحدها بل البشرية الى .. العصر الجليدي الأول.