د.أمل الأسدي ||
ملاحظة: هذا المقال حاز علی المرتبة الأولی في المسابقة المقالية التي أقامتها كلية التربية للعلوم الإنسانية/جامعة البصرة،وبالتعاون مع مركز الجنوب الثقافي الإسلامي،بمناسبة الذكری السنوية الثانية لاستشهاد قادة النصر(رض).
قدّم لنا رسولُ الله الأعظم وأهلُ بيته أروعَ المواقفِ والمشاهدِ،وحثوا عليها بالأحاديثِ الشريفةِ،وهذه المواقف التي تمثل منهجا مُتبعَا تحولت إلی مفهومات صادقة،جسدت معنی القدوة والأسوة الحسنة،ومن أعظم هذه المواقف،هو موقف الأبوة،أي أبوة رسول الله الأعظم للأمة،تلك الأبوة التي وثقها(صلی الله عليه وآله) بحديث شريف وكشف فيها عن شريكه في الموقف،وقسيمه في منزلة الأبوة حين قال:(يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأُمّة ) ولابد من رصد المعاني المترتبة علی هذا الحديث،ورصد تمظهراتها في واقع حياة رسول الله ونفسه العلية(صلوات الله عليهما) وأول هذه المعاني:( اللاندية):فالأب لايكون ندا لأبنائه،ولا يثير الخصومة معهم حتی حين يعصونه،إذ يتسع قلبه لهم،ويحاول إصلاح حالهم من دون نديةٍ أوخصومة،وهذا ما كان متجسدا في أطهر قلبين عرفتهما البشرية(محمد وعلي صلوات الله عليهما).
ومن المعاني الأخری (الإيثار ونكران الذات) فالآباء ينكرون ذواتهم للأبناء،إلی الحد الذي لايشعرون فيه بكلمة (أنا) فحاضرهم وماضيهم ومستقبلهم كله للأبناء،وهم لايرون في ذلك ثقلا،بل علی العكس يستمتعون به،لأنه يعبر عن محبتهم التي لاتُقارَن بها أية محبة،وهكذا كان رسول الله الأعظم وعلي بن أبي طالب،كانا ومازالا مصدرا للخير والتضحية والعطاء،فقد بذل رسول الله حياته وراحته واستقراره في سبيل المسلمين والإنسانية،وكذا الإمام علي الذي ألقی بنفسه في لهوات الحروب،ولم يسأل علی ذلك أجرا أو شكرا،بل كل ذلك كان محبةً وأبوةً.
ونقف أيضا عند معنًی آخر وهو(المساواة بين الأبناء) فالأبوة تقتضي التعامل مع الأبناء جميعهم بالتساوي،وهذا كان منهج الرسول مع أمته،فهم في نظره كأسنان المشط،سواسية لافرق بين أبيض أو أسود،أو عربي أو أعجمي،كلهم أبناء محمد وعلي(صلوات الله عليهما).
ومن معاني الأبوة الأخری:(العفو والسماح) فقلب الأب لايستطيع إلا أن يغفر زلات الأبناء،ويسامحهم مهما عظم الأمر،يوجه وينصح ويسامح،وكأنه مجبول علی السماح والمحبة ولايستطيع حجبها،وهذا ماكان متجسدا في رسول الله والإمام علي،وهي إنسانيةٌ كاملةٌ مثلی،ورحمة واسعة شاملة،فرسول الله رحمة للعالمين، وكذا( الإمام علي) فمنهجه امتداد لرسالة رسول الله الأعظم،لذا كانا شديدي الرحمة والعطف حتی علی غير المسلمين،فهما أبوا الإنسانية.
ومن المعاني الأخری للأبوة(الكرم والإغداق) فلا يبخل الأب في ضخ كل ما لديه في الجانب المادي والمعنوي لأبنائه،فهم فرحته، ونجاحهم غايته،فيسهر ويتعب ويعمل لأجلهم،وهو في ذلك كله لايستثقل ولايغتم،بل يكون في غاية السعادة والراحة،فهو يشعر بانتمائهم إليه،وهذا ما قام به رسول الله والإمام علي،فلم يبخلا علی الأمة في شيء،وبذلا كل ما لديهم،مال،علم،جاه،محبة...الخ قدموها للأمة ولم يسألوا عليها أجرا !
ومن صور الأبوة الأخری ومعانيها(الشعور العالي بالمسؤولية)فالأب هو رب الأسرة وربان سفينتها،وهو بذلك يری أنه ملزمٌ ومسؤول عن كل صغيرة وكبيرة من شأنها أن توفر الراحة والأمان للأبناء،ولهذا كان رسول الله والإمام علي(صلوات الله عليهما) يحملان همَّ الأمة،ويتابعان كل صغيرة وكبيرة،وإلی الآن نجدهما حاضرين في كل ضغط وضيق ووهن وكربة،فقلب الأب يخفق بالمحبة وإن كان غائبا.
هكذا صارت أبوة رسول الله والإمام علي(صلوات الله عليهما) مفهوما ثابتا،وأسوة حسنة،وقدوة مباركة،ومنارا وطريقا ومنهجا لكل مَن أنعم اللهُ عليه ليكون مؤثرا في محيطه وبيئته،متفاعلا مع قضايا الأمة الرئيسة.
ومادمنا نحيي الآن، الذكری السنوية الثانية لرجلين أنعم الله عليهما بالإيمان والتسليم واتباع منهج الرسول الأكرم وأهل بيته،فتعالوا نرصد تجليات الأبوة المحمدية في سيرة قادة النصر"المهندس وسليماني،رضي الله عنهما"
فقد كانا أبوين بكل ما تحمله مفردة الأبوة من معان وصور وتجليات،فكل سلوكهم وعملهم في حياتهم كان بعين الأبوة،فيقاتلان من أجل الجميع(سنة،شيعة،مسيح،أيزيدية...الخ) ويتألمان من أجل الجميع،ويعرِّضان روحيهما إلی خطر الموت والإصابة والجوع والبرد والحر والبعد عن المسكن والأهل في سبيل الأمة،وفي سبيل وحدة العراق والحفاظ علی أرضه وشعبه،لذا نجدهما يجلسان مع الجنود ويأكلان معهم،ونجدهما يجلسان مع الأطفال والشيوخ والشباب،فكفٌّ تلاطف،وكفٌّ تمسِّد رحمةً ومحبة،ووجه ضاحكٌ مستبشر،يمتص ببسمته وطأة الواقع وشدته!!
أبوان رحيمان لايفترقان عن بعضهما،ولايفترقان عن أبنائهم،فقلب يتابع استقرار الأسر،وقلب يخيط جراحات المفجوعين،وقلب يتحمل المسؤولية ويبحث عمن غدر بأبنائه كي يقتص منه ويحفظ كرامتهم.
الأبوة الرحيمة التي تغفر لمن يسيء إليها،فلا تحقد ولاتبني علی ذلك أثرا،بل وتصرِّح وأمام الجميع أنها مسامحة،هذه أبوة القائدين الشهيدين،وهذا ما عُرف عنهما وبقي أثرا يدل علی إنسانيتهما العالية وأخلاقهما المحمدية العلوية.
هما أبوا العراق في أشد مرحلة مرّ بها،كان الإيثار يتصدر سجاياهم،فلا يفكر أحدهما بنفسه وأهله وبيته وماله،إذ حمّلا نفسيهما مسؤوليةَ الأبناء والحفاظ عليهم،فلا(أنا)بإزاء الأبناء،ولاسيما وأن الأبناء يمرون بأزمة ومؤامرة تستهدف الإنسانية كلها،لذا حققا بهذا التفاني ونكران الذات أروع صور الانتصارات البطولية التي بقيت خالدة وشاهدة علی نعمة الأبوة التي أحاطا بها العراق.
كريمان لم يبخلا بروحيهما ولا بماليهما ولا بعلميهما،جعلوا كل ذلك مباحا لأبنائهم،فمن جبلٍ إلی وادٍ إلی سهلٍ إلی صحراء، من الرمال إلی الأمطار إلی الرياح،وهم في كل ذلك يحملون هم الأمة والحفاظ علی كيانيتها.
إن الأبوةَ توفر الحماية والسند للأسرة،وأبوة القائدين كانت تمثل درعا واقية للعراق بكله،بكل طوائفه وفئاته،أبوة القائدين كانت مركز قوة وصمام حكمة للجميع،ومنهج نصر وثباتٍ؛لذا لم يرق هذا الأمر للشياطين ومؤسساتهم اللعينة،فقرروا نزع الأبوة عنّا،وحرماننا من نعمة وجودها،كي نتشتت ونتفرق وتعصف بنا ريح الخلافات فيسهل الانقضاص علينا!!
كالأسرة التي إذا غاب الأب عنها،تتشتت وتتبعثر ويضيع سنادها وعمادها؛لذا اغتالوا الأبوة،حرمونا من القائدين الهمامين بغية تحقيق مآربهم،إلا أنهم لم يدركوا أن هذين القائدين بدورهما،صارا مفهوما للحق والأبوة والتضحية والتسليم والشجاعة،وللمفهوم مصاديق كثيرة،ستنبت وتظهر وتحيي ذكری الأبوة الشهيدة الشاهدة في كل حين