حسين فرحان ||
من الفضائلِ العظيمةِ أنْ يتحلّى الإنسانُ بمقدارٍ مُعتَدٍّ به من العقلِ الراجحِ والحِكمةِ ليتحقّقَ له من خلالِهما ذلك الاتزانُ المرجو له في حياته دون أنْ يُبتلى بالنكباتِ، أو أنْ يكونَ عُرضةً للندمِ أو العقوبةِ حالَ تخلّيه عن حِكمتِه وعقلِه وانسياقِه وراءَ انفعالاتٍ تتحكّمُ بقراراته..
فرقٌ كبيرٌ بينَ انفعالاتٍ لا تستندُ إلى موازينِ العقل، ولا تمتُّ للحكمةِ بصلةٍ، وبين قراراتٍ ناضجةٍ متزنةٍ تُسهِمُ بنزعِ فتيلِ أزمةٍ مُعيّنةٍ أو تأتي بالنفعِ على المُستوى الشخصي أو على مُستوى أعلى من ذلك فيما لو كانتْ هذه القراراتُ مُتعلِّقةً بشؤونِ أُناسٍ آخرين أو بحياتهم..
ولا يُشترَطُ أنْ تكونَ حكمةُ الشخصِ هي الأصلَ في قراراتِه وتصرفاته، بل أنّها تكونُ حكمةً حقيقيةً حينَ تدفعُ به إلى الاستشارةِ والاستئناسِ برأي الآخر ممّن يوثَقُ بحكمتِه وعقلِه فيما لو لم تُسعفْه قدراتُه على تمييزِ الجيّدِ من الرديء أو ما ينبغي فعله في قضيةٍ معينة.
قد يفقدُ الإنسانُ حكمتَه تجاهَ نفسِه فيُلقي بها في المهالكِ، ويغضُّ الطرفَ عن حكمةِ الآخرين وتجاربِهم اعتدادًا بالنفس وغرورًا..
وقد تصحبُ هذا الغرورَ حماقةٌ تودي به وبمن معه إلى مالا تُحمَدُ عُقباه؛ فمدينةُ روما لم تكنْ لتحترق لو لم يكنْ حاكمُها (نيرون) رجلَ انفعالاتٍ من الطرازِ الأول وربما كان مجنونًا..
وكثيرٌ من الحروبِ والغزواتِ التي راحَ ضحيّتها الملايين من البشر كانَ سببُها ذلك الغرورَ والحماقةَ وفقدانَ الحِكمةِ في الرأي أو في المشورة..
ولعلَّ من الشواهدِ على ذلك هتلر وفكرَه النازي وصدامَ وفكرَه البعثي وتلك القراراتِ الارتجاليةَ التي لم تنظرْ يومًا إلى حجمِ المآسي المُترتبةِ على حماقاتِ أمثالِ هؤلاء، لتقع الشعوبُ الآمنةُ ضحيةَ رأيٍ مُستبدٍ أو انفعالٍ غير مُبرّر.
لقد طرحتِ المرجعيةُ الدّينيةُ العُليا في خُطبةِ الجمعة التي ألقاها سماحةُ السيّدِ الصافي بتاريخ 27-12-2019 هذا الموضوع المهمَ بشيءٍ من التفصيلِ لأهميته البالغةِ في ظلِّ تشعُّبِ الأمورِ الحياتيةِ سهولةً وصعوبةً، وحاجةِ المنظومةِ الاجتماعيةِ الماسّةِ للتحلّي بالحكمةِ في اتخاذِ قراراتِها على المستوياتِ كافة، فجاءَ فيها ما نصُّه:
(الأمورُ الحياتيّةُ قطعًا تتشعّبُ سهولةً وصعوبةً، وينبغي علينا في جميعِ مناحي الحياة أنْ نركن إلى أهلِ العقلِ وأهلِ الحكمة، وأنْ لا نتجاوزَ المشورةَ، لأنّ تجاوزَها يُفضي إلى الندامة، قد أتصوّرُ أنّني قد أحطتُ بكُلِّ شيءٍ فأبدأ أتصرّفُ وفقَ هذا المنظور، قد يكونُ غرورًا بنفسي واتّكالًا على عقلي المُجرّد، مع أنّه يوجدُ من هو أفضلُ منّي ومن هو أعقلُ منّي و أكثرُ حكمةً منّي، والأمرُ يعنيني وأنا لا بُدّ أنْ أنجحَ في مسيرةِ حياتي عامّةً اقتصاديًّا اجتماعيًّا سياسيّاً أُسريًا، أنا أريدُ أنْ أنجح، إذا كُنتُ فعلًا أريدُ أنْ أنجحَ لا بُدّ أنْ أرتِّبَ حياتي بطريقةٍ أضمنُ لها سلامةَ القرار، وسلامةُ القرار تحتاجُ إلى رويّة)..
وفي وقتٍ شاعَ فيه عدمُ التفاتِ الكثيرِ من الطبقات الاجتماعيةِ بل والسياسيةِ إلى التوجُّهِ نحو أركانِ الوثاقةِ والحِكمةِ للاستنارةِ بآرائهم لينزلق المُجتمعُ إلى مهاوي الفتن وفقدانِ مُقوِّماتِ وأُسُسِ الثقافةِ، وتردّي وضعهم بسببِ هذا الجفاء لأهلِ العقلِ، جاءَ في الخُطبةِ ما نصُّه: (ميزةُ أهلِ العقلِ والحكمة أنّهم لا يُعطون رأيًا جزافًا ولا يتعاملون مع انفعالاتٍ قد لا تحلُّ الإشكال، وأنّهم يدرسون الأمرَ من جميعِ أطرافِه، فإذا قرّروا قرّروا بمقدارٍ يضمنُ لنا سلامةَ هذا القرار...
حقيقةً –إخواني- الإنسانُ في بعضِ الحالاتِ يبحثُ عن ناصحٍ، ويبحثُ عن مُعلّمٍ، ويبحثُ عن مُرشدٍ، ويبحثُ عن حكيمٍ، ويبحثُ عن عاقل، ومقصودي من العاقلِ ليس العقلَ في قبالِ الجنون، إذ الناسُ كُلُّها بهذا المقدارِ عُقلاء إلّا من جُنّ، ولكن مقصودي من أهلِ العقلِ أنّ هناك أناسًا يمتازون بقدرتِهم على تشخيصِ المشكلةِ وإيجادِ الحلولِ الحقيقيّة لها).
وبيّنتِ الخُطبةُ ميزةَ أهلِ العقلِ والرويّةِ ووصفتْ وجودَهم بينَ المُجتمعاتِ بالرحمةِ، وحثّتْ على أنْ يلجأ الإنسانُ إليهم لإنقاذه.. وبيّنتْ أنَّ هنالك مشكلةً مهمةً هي وجودُ من يدّعي أنّه من أهلِ العقلِ والحكمةِ، هذا الادّعاءُ الذي ستغيبُ عنه الكثيرُ من الحقائق، فجاءَ مثالًا على عدمِ الاكتراثِ بقولِ أهلِ الاختصاصِ وما تترتّبُ عليه من نتائج.
وأكدتْ بعضُ مضامين الخُطبة على أهميةِ المشورة فجاءَ فيها: (كُلٌّ منّا يحتاجُ إلى أنْ يُشاورَ الآخرين، نعم.. من يُشاورُهم لا بُدّ أنْ يكونوا أهلًا للمشورة، وكُلٌّ منّا يُحِبُّ أنْ يكبُرَ، والكُبرُ ليس في العمرِ وإنّما الكُبر بما عندي من معرفة، أو بما أعرفُ من أهلِ العقلِ والحكمةِ بالمعرفةِ حتّى أكون كبيرًا، أمّا إذا لم تكنْ عندي هذه المعرفةُ ولا أعتمد على أهلِ العقل سأبقى صغيرًا ما حييت، وأهلُ العقلِ والحكمةِ لا يأتون بقرارٍ –إخواني-، الإنسانُ يُميَّزُ
من تجربةٍ.. يميَّزُ ويُعرفُ أنّ هذا من أهلِ العقلِ والحكمة، -لاحظوا- فليسَ من إنصافِ نفسي أنّي لا أسمعُ لأهلِ العقلِ والحكمة، لا بُدّ أنْ أُنصِفَ نفسي كما أختارُ لجسمي الطعامَ الجيّدَ، لا بُدّ أنْ أختارَ لعقلي ونفسي الفكرةَ الجيّدة، إنْ لم أستطِعْ لا بُدّ أنْ أسعى لها فإذا توفّرتْ لا بُدّ أنْ أعملَ بها).
لم تخلُ الخُطبةُ من مثالٍ جميلٍ يُحاكي جزءًا من واقعِنا، فكانتْ صورة الإنسانِ التي يراها في المرآة حاضرةً كشاهدٍ على توهُّمات البعضِ بأشكالٍ وأحجامٍ لا تُطابِقُ حقيقتَهم التي هم عليها، بسببِ مرآةٍ تتصرّفُ بصورهم كيفَ تشاء –لأنّها مُزيّفة- ليأتي النصّ بهذا الشكلِ اللطيفِ النابعِ من قراءةٍ دقيقةٍ للمرجعيةِ العُليا لواقعِ بعضِ الناس: (الإنسانُ عندما يرى نفسَه في المرآةِ يراها على حجمِها الحقيقيّ، المرآةُ تعكسُ له حجمَه الحقيقيّ، أمّا إذا كانتِ المرآةُ لا تعكسُ حجمَه الحقيقيّ تكونُ هذه المرآةُ مُزيّفة، توجدُ بعضُ أنواعِ المرايا تُضخِّمُ شكلَ الإنسانِ وتُعطيه شكلًا آخر فهذه المرآةُ تُزيّفُ الحقائق، الحقائق كما هي ومن النعمةِ أنّ الإنسانَ عندَه من أهلِ العقلِ وأهلِ الحكمة، لكن هذه ستكونُ مدعاةً إلى أنْ يؤشِّرَ عليه سلبًا إذا لم يستنِرْ برأي أهلِ العقلِ وأهلِ الحكمة)
لم تكنِ المرجعيةُ العُليا لتقدِّمَ هذه الإفاضاتِ الرائعةَ إلا لأنّها في معرضِ تشخيصٍ دقيقٍ لأمراضٍ مُجتمعيةٍ خطيرةٍ ينبغي الإشارة إليها والتنبيهُ بشأنِها لتلافي الوقوعِ بمخاطرَ جسيمةٍ نتيجةَ تجاهُلِ البعضِ لمنطقِ العقلِ والحكمةِ والمشورة، لتكون النتيجةُ قراراتٍ خاطئةً لا أساسَ لها سوى الانفعالاتِ أو الغرور.
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
حسين فرحان