نور الدراجي ||
الأخلاق إحدى الجهات الإنسانية التي عني بها دين الاسلام، واهتم بها اهتماماً كبيراً، والذي يستقصي تعاليم الكتاب وارشادات السنة يعلم مقدار هذا الاهتمام، ومبلغ هذه العناية، وهذه الظاهرة في الدين الإسلامي إحدى مميزاته عن سائر الأديان، وإحدى مؤهلاته للخلود.
ولقد تجسدت هذه الأخلاق عملاً في حياة الأنبياء والاوصياء والصالحين، ومن هؤلاء الإمام الصادق (عليه السلام) حيث تزخر حياته بالمواقف الأخلاقية التي تشير إلى الشخصية الإسلامية المؤمنة المتكاملة و التي منها الكرم والصبر والتواضع والشجاعة وغيرها.
فالإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فرع كبير مشرق من تلك الدوحة النبوية الكريمة الباسقة، غرف من بحور مدينة علم جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) وآبائه الأئمة الاطهار (عليهم السلام)، وزانه الله تعالى بعظيم الخلق وأنبل السجايا والصفات، فكان في زمانه قبلة أنظار أهل العلم والدارسين، وقدوة المتقين السالكين، ومازالت آثاره الخالدة ومآثره الطيبة تشع نورا وهدى على مدى الأجيال.
لقد كان الإمام الصادق (عليه السلام) مثلاً أعلى للأخلاق الفاضلة والصفات الجليلة والمزايا الحميدة، فهو الصادق في القول والفعل، والناطق بالحق، والعالم العامل بعلمه، والموجّه للأمة بدعوته، وما اجمع علماء الإسلام على اختلاف نزعاتهم وطوائفهم كما أجمعوا على فضله وعلمه، ولقد وصفه المنصور الدو انيقي وهو خصمه الألدّ بقوله : أنه مّمن اصطفاه الله، وكان من السابقين في الخيرات.
شهد الأنام بفضله حتى العدا
والفضل ما شهدت به الأعداء.
ويقول عنه مالك بن أنس فقيه المدينة : والله ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد زهداً، وفضلاً وعبادةً وورعاً، وكنت اقصده فيكرمني ويقبل عليّ، ويقول عنه أيضاً : كنت ادخل إلى الصادق جعفر بن محمد فيقدم لي مخدة، ويعرف لي قدرا ويقول : يا مالك إني احبك، فكنت أُسر بذلك وأحمد الله عليه، قال: وكان عليه السلام رجلاً لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً، وإما قائماً، وإما ذاكراً، وكان من عظماء العُبّاد، وأكابر الزهّاد، الذين يخشون الله عز و جل، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم) اخضرّ مرة، واصفرّ أخرى حتى ينكره من كان يعرفه.
ومن مكارم أخلاق الإمام وسمو ذاته أنه كان يجازي المسيئين بالإحسان، ويعفو عمن أساء إليه ويدعوا له، فهو القائل : (إنا أهل بيت مروءتنا العفو عمن ظلمنا) لقد عانى الإمام الصادق(عليه السلام) الأشد من تجاوزات أرحامه من جهة، والسلطة الحاكمة من جهة أخرى، ومن المناوئين له والحاقدين عليه من جهة ثالثة، ولكنّه كان يقابل الإساءة منهم بالحسنى، والعنف والشدة منهم باللين، تمشياً مع خلق القرآن وتعليمه ( ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فمن الصور المشرقة لحلمه ما يروى (أن رجلا من الحجاج توهم أن هيمانه قد ضاع منه، فخرج يفتش عنه فرأى الإمام الصادق (عليه السلام) يصلي في الجامع النبوي فتعلق به، ولم يعرفه، وقال له : أنت أخذت هيمانه..؟ فقال له الإمام بعطف ورفق: ما كان فيه؟ .. قال: ألف دينار، فأعطاه الإمام ألف دينار، ومضى الرجل إلى مكانه فوجد هيمانه فعاد إلى الإمام معتذراً منه، ومعه المال فأبى الإمام قبوله وقال له: شيء خرج من يدي فلا يعود إليّ، فانبهر الرجل وسأل عنه فقيل له: هذا جعفر الصادق، وراح الرجل يقول بإعجاب: لا جرم هذا فعال افعاله).
وهكذا يتخذ الإمام (عليه السلام) من حلمه وتواضعه وعفوه، رسالة ينفذ من خلالها إلى أخطاء الآخرين وتجاوزاتهم، في عملية تصحيح رقيقة، تعكس الأسلوب الإسلامي الهادئ في العمل الهادف من أجل عمل الآخرين على الانفتاح على روح الرسالة، والتمسك بمُثلها الأخلاقية وقيمها الإنسانية،