د.أمل الأسدي ||
حين كانت الجدران تتجسس علينا،تراقب أنفاسنا،كُنّا نرادوها عن عاداتها،فتسلّم نفسها لمشيئة الظهيرة،مختمرةً،طريةً، طيّعةً!!
هناك حيث كانت الحياة بقيادة أمهات( معدلات يسون من الماكو اكو) فلابد أن تدبر الأم حالها وتنظم أمور المنزل،وريثما يعود الأبناء من مدارسهم أوكلياتهم،يكون الغداء قد نضج(والجدورة فارن،وريحة العنبر ترست البيت) وبعد أن يُرفع أذان الظهر الذي كُنا نعصر أسماعنا كي يصل الصوت إليها،فتلتقطه أرواحنا وهي تتمنی يوما ما أن تسمعه مدويا،أو أن تراه علی شاشة التلفزيون متزينا باسم الأمير علي(ع)!!
و بعد الصلاة والدعاء بصوت(المعدله) سيدة المنزل:(چفينا شر بني ادام وطفي عيونهم عن وليداتي وويليدات امة محمد،بحق محمد وال محمد) تقف من جديد قرب الطباخ،ويقف الأطفال حولها( فرگعت للتمن) وامتزجت رائحة العنبر بالدهن بـ(رائحة اللمپة) هنا شعرت أنها تملك الدنيا،وشعرنا نحن بأن الحياة جميلة وبسيطة، ونسينا تماما الجدران التي تراقبنا!!
أو لنقل: تناست الجدران مهمتها واستسلمت لمشيئة الظهيرة!! فتقول الأم:
ـ شغلي الراديو راح يطلع الوائلي
ـ يمه،شغلته بس صوته مو واضح يوشوش
ـ يلة هسة يجي أبوچ وهو يعرف يضبطه
وسرعان ما عمّ الهدوء اللذيذ الشهي،فصمتَ الجميع وبقي صوت الوائلي!
صمت الجميع وبقي الوائلي يربي ويعلم ويؤدب!
... بقي الوائلي ينشر بذور العقيدة،فتنبت فورا مستبشرة مفتخرة!
ومازالت أمي تسكب الطعام من دون صوتٍ يقاطع الوائلي! لكنها تردد: نصوا الراديو لايچفتون علينا!!
ويخفَّض والدي الصوت قليلا، وتبحر الأسرة بين جمالين: جمال عالَم الشيخ الوائلي ورحابته،وإسناده ودعمه لنا نحن ـ المستضعفين- الذين نخفي هواياتنا مقابل أنفاسنا!!
وجمال عالَم الأم(المعدله) وأطباقها المطبوخة بمحبة وقدرة تحمل عجيبة،وقدرة إدارة فطرية!!
شكرا لأمهاتنا،شكرا لكل أمٍّ عراقية كانت تقاوم بصوت الوائلي!!
وشكرا لكَ، أيها الطقس الخالد، طقس الظهيرة الممزوج بالعنبر!!
مرةً أخری أقولها: وحدكَ أنتَ كنتَ ظاهرةً ممزوجة بالعنبر!!