الشيخ خيرالدين الهادي ||
بالنظر إلى مجريات الاحداث المتسلسلة في أرض كربلاء التي تعتبر شعلة الاحرار ومعشوقة الثوار تنكشف حقائق لابد من الوقوف عليها والتأمُل فيها باعتبارها متجددة في كل عصر لتُقَّسم الناس على حسب قدراتهم على العطاء وصبرهم على البلاء فيفوز بعضهم بدرجات الكرامة والفضل ويتهاوى آخرون بعد فشلهم في مواجهة التحديات أو ضعفهم أمام المغريات التي كانت واحدة من الوسائل المعتمدة من قِبل الظالمين والفاسدين للوصول إلى غاياتهم.
وفي خضمِّ الاهوال تنكشف معالم الرجال؛ فبعضهم ليس له القدرة على العطاء إلا بالمقدار الذي لا يؤثر على مكتسباته وهذا القسم من الرجال قد يصدق عليه عنوان المحِبَّ, وهذه المرتبة هي أدنى مراتب الولاء؛ بل قد لا يصدق عليه سمة الموالي باعتبار أن أكثر من يتصف بهذه الدرجة لا يفرِّق بين المحبة لأهل البيت (عليهم السلام) وبين غيرهم؛ فيجمع بين محبَّة علي(عليه السلام) ومعاوية ويعلنها صراحة أنه لا يحبُّ أن يفرِّق بينهم, وهذا ممن لا خير فيه ولا في حُبه؛ لأنه لا يستطيع أنْ يفرِّق بين الحق والباطل.
وأمَّا المستوى الثاني من الرجال فهم ممن يصدق عليهم عنوان الموالي, ولعلَّ أكثر الاتباع من هؤلاء, وهم على درجة من الخير؛ بوصفهم فرَّقوا بين الحق والباطل, وتمكَّنوا من التمييز بينهما؛ ولكن تبقى مساحة ولائهم ضمن حدود معينة؛ إذ يحاولون مداراة أمرهم والمحافظة على مكتسباتهم؛ فهم يدركون مخاطر توجهاتهم, ويدرسون حجم التحديات التي قد يواجهونها في ولائهم؛ لذلك تراهم يداهنون ويبحون عن الأعذار التي تُمكِّنهم من الاستمرار في الولاية لآل البيت (عليهم السلام) من دون أن يخسروا مرتكزاتهم الاجتماعية أو السياسية أو غيرها, وهؤلاء يغلب عليهم التفكير والتدبير قبل الإقدام على فعلٍ أو أمر لاسيَّما إذا تعلق الأمر بسلامة دنياهم.
أمّا القسم الثالث من الرجال فهم الشيعة, وهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لأئم؛ فليس لهم رأي أمام رأي المعصوم؛ لأنهم أدركوا أن المعصوم أولى بهم من أنفسهم, وهذا القسم ليس كثيراً بين المؤمنين فضلا عن عامَّة الناس, وهم على قلَّتهم يدخلون التاريخ في أوسع أبوابها؛ لما يظهروه من الطاعة والولاء تجاه مولاهم, ومن هؤلاء كان العباس بن عليٍّ (عليهما السلام) الذي ضرب أروع الأمثلة للطاعة والولاء في نهضة كربلاء؛ فهو الذي شقَّ صفوف العدى ووقف على الماء وعزف عنها لأنَّ مولاه الحسين كان عطشانا, وحينما قدَّم القوم له العروض المغرية في الحفاظ عليه وعلى سلامته لم يتأخر في جوابهم لحظة ليفكِّر في الأمر؛ بل اعترض قائلا أتمنحونني الأمان وابن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا أمان له, هيهات, ولم يتأخر لحظة عن دعوة الحسين (عليه السلام) مع علمه أنه مقتولٌ مذبوحٌ؛ ليصدق عليه عنوان شيعة الحسين (عليه السلام) وهذه المرتبة يغبطها عليه كثير من المؤمنين سواء ممن شهد كربلاء أم ممن لحق بركبهم, فالمعلوم أن مسيرة كربلاء لم تتوقف عند شهادة فرسانها ولن تتوقف إلا بالثأر لهم؛ لتبقى نهضة كربلاء تصنف المؤمنين بين محبٍّ وموالٍ وشيعيِّ.