الكاتب الحقوقي علي الفارس ||
لو تتبعنا تطورات الأوضاع السياسية والاجتماعية التي مر بها المجتمع بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وآلة وسلم، وحتى استشهاد الامام الحسين، عليه السلام، في كربلاء في عاشوراء عام (٦١) للهجرة، لأمكننا ان نكتشف عدة أسباب وراء هذا التخاذُل المرعب الذي جر على المسلمين الويلات تلو الويلات، منها، الجهل بالسنن الكونية وبالعواقب..
فعندما يظن المرء بأن انعزالهُ ينجيه من المكاره، ويجنبه الثمن الباهظ، فانه يرتكب خطأ فظيعاً، ثم يدفع الثمن فيما بعد مضاعفاً، ولعل هذا مصداق الحديث النبوي الشريف: «الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس».
من جانب آخر، فإن هذا النّوع من الناس يظن ان موقف الاعتزال يكفي كدليل على رفضهِ للباطل او للفعل الخطأ، ناسياً او متناسياً انهُ دليل خذلانه للحق حتى إذا لم ينصر الباطل، على حد قول أمير المؤمنين، عليه السلام، في الذين اعتزلوا القتال معه: «خَذَلُوا الْحَقَّ، وَلَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ».
ثانياً: الجبن والخوف، وهو السبب الأكثر شيوعاً في المجتمع الذي يدفع الناس للتهرب من المسؤولية والتخفي بالحجج والأعذار لتبرير جبنهم وخوفهم.
انّهم يظنون ان اتخاذهم لأي موقف من الباطل، ربما يهدد حياتهم، ولذا يتهربون من المسؤولية مهما كان ثمنها تافهاً او بسيطاً، أما أمير المؤمنين، عليه السلام، فقد فند هذا الفهم الخاطئ بقوله: «وَإِنَّ الاْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ المُنكَرِ، لَخُلُقَانَ مِنْ خُلُقِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّهُمَا لاَ يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَل، وَلاَ يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْق».
كذلك نرى تغليب المصالح الذاتية الشخصية على الصالح العام.
فعندما خاطب معاوية، عمرو بن العاص، بعد ان هاجر اليه الى الشام من فلسطين واضعاً حداً لاعتزالهِ الحياة العامة، بقوله «هلم فبايعني» قال: له عمرو «لا والله لا أُعطيك من ديني حتى آخذَ من دُنياك» فقال معاوية: صدقت! سل تعط، فقال عمرو؛ مصر طعمة! فغضب مروان بن الحكم، وقال؛ ما بالي لا أُشترى؟ فقال معاوية؛ أُسكت يأبن العم، فإنما تشترى لك الرجال! فكتب معاوية لعمرو مصر طعمة.
ذات الشيء ونفس الموقف مر به عمر بن سعد بن أبي وقّاص، عندما قبل بحكم الري طعمة لقتل سبط رسول الله، صلى الله عليه وآلة وسلم، سيد شباب أهل الجنة سيد الشهداء الامام الحسين، عليه السلام،
والى هذا المعنى أشار الامام الحسين عليه السلام بقوله «النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون».
ثم نرى الحب الأعمى والبغض الأعمى. فبينما يدفع الاول بالمرء الى ان يبرر كل شيء خطأ، سواء على الصعيد الشخصي او على صعيد المجتمع او على صعيد الدولة والنظام والمؤسسة الحاكمة، فان الثّاني يدفع صاحبه الى ان يتجاهل اي شيء صحيح ومفيد لدرجة انّه يخسر تجربة حضارية، وقيمة انسانية عظيمة.
وهو الامر الذي يتعامل به البعض مع كربلاء، وعاشوراء، وسيد شباب أهل الجنة، الامام الحسين بن علي، عليهما السلام، فهؤلاء يتناسون ويتجاهلون فضلها بسبب بغضهم الأعمى، والله تعالى أمرنا ان لا ننسى ذلك بقوله {وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
بينما يصف القرآن الكريم الحالة الاولى (الحبّ الأعمى)، والذي ينتج ثقافة صناعة الطاغوت وعبادته، وكذلك عبادة العجل، بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}
انّه توصيف راقٍ بمعان جوهرية عميقة، وكأن «عَبَدَة العِجل» لم يكتفوا بالظاهر فقط وأنما أثرت عبادتهم للعجل في كيانهِم ومشاعرهم وطريقة تفكيرهم وأحاسيسهِم وممارستهِم اليومية ورؤيتهِم للأمور وتعاملهم مع الآخرين، لدرجة ان عبادتهم للعجل، وصلت حد الكفر بالله -تعالى- والتناقض مع ما يقولون ويدعون، فهم يقولون: «سمعنا»، ولكن في نفس الوقت يكفرون بما جاءهم من العلم والوحي، وكل ذلك بسبب ان نفوسهم تشربت عبادة العجل، كما تشرب قطعة الإسفنج الماء!
لكن لا ننسى تغليب قيم الجاهلية على القيم الدينية، وكأن المجتمع انقلب على عقبيه، وإذا بقيم العشيرة، وعلى رأسها روح الانتقام، تتغلب على أية قيمة أُخرى علمها رسول الله، صلى الله عليه وآلة وسلم، لذاك المجتمع الجاهلي.
وإذا تتبعنا كل الحوارات التي جرت بين مختلف الشخصيات في تلك المرحلة، لن نجد أحداً منهم يحاجِج بقيم الرسالة مطلقاً، طبعاً؛ باستثناء أهل البيت عليهم السلام الذين صقلت شخصيتهم الرسالية بالكامل، ولهذا السبب، فعندما تساءل الامام الحسين، عليه السلام، عن سبب قتالهم له في يوم عاشوراء على الرغم من كل ما يعرفون جيداً من
حقيقة مكانته وعلاقته برسول الله، صلى الله عليه وآلة وسلم، وما كانَت تمثله شخصية يزيد، كان جوابهم: «بُغضاً لأبيك»! وكأنهم جاؤوا لينتقموا من إِسلامهم، ولم يخطر ببالهم طرفةَ عين أبداً ان يبحثوا عن الحق او حتى عن مصالح الأمة او دينهم!
كما ان الغيرة والحسد، فالبعض يتناسى الأمور والفضل الذي يتعلق بالآخرين اذا كان يحسدهم على ما آتاهم الله من فضلهِ او تشرَبت نفسة الغيرة منهم، كما يصف - تعالى- ذلك بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}
لذلك يمكن القول، وبضرس قاطع، ان عاشوراء لم تكن أكثر من تذكرة واختبار للمشروع الاصلاحي والجهادي في الامة، كونها نهضة الغاية منها تذكير الامة بما يجب عليها فعلة من أجل تكريس العدالة الاجتماعية، والتي لا يمكن ان نتصورها أبداً إذا نزا على السلطة حاكمٌ ظالمٌ وفاسد، اذ تتجلى مسؤولية الأمة في هذه الحالة بالتصدي له وإِزاحته، وإلا فستكون النتيجة كما قال سيد الشهداء، عليه السلام، عندما خاطب القوم بقوله:
إن رسول الله، صلى الله عليه وآلة وسلم، قال: «من رأى منكم سُلطاناً جائِراً مستحِلاً لحرمِ الله، ناكثاً لعهدِ الله، مُخالفاً لسنّة رَسُولِ الله، صلى الله عليه، يعملُ في عبادِ الله بالإثمِ والعُدوان، فلم يغيّر عَلَيْهِ بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يُدخلهُ مدخلهُ».
وهو الامر الذي نراه اليوم بأم اعيننا ونلمسه لمس اليد في طول بلاد المسلمين وعرضها، لتأتي عاشوراء تذكرة ونورا لنا لما يجب علينا فعله من أجل تحقيق التغيير المرجو، اذ لا يمكن ان نتصوره الا بقيم عاشوراء الانسانية العظيمة. وليعتبر من هذه العبرة والثورة شيعة العراق لأنهم هم من يتحمل المسؤولية امام صاحب العصر والزمان ارواحنا لتراب مقدمه الفداء...