هادي خيري الكريني ||
كأنّ المَعاني في فَصاحَةِ لَفْظِهَا
نُجُومُ الثّرَيّا أو خلائقُكَ الزُّهرُ
(ابو الطيب المتنبي)
لست من أرباب اللغة ولا النحات ولكن لي اذن تهوى سماع قريض العرب ونوادر الكلم وجواهره ...
والعربية بحر فيه من الدرر ما يغني كل طالب علم ونزل بلغة العرب دستور السموات والأرض وتحدى الله جل جلاله البشر ان يأتوا بمثل ما انزله جل وعلا وكان معجزة محمد صل الله عليه وآله وسلم هو القرأن وبلغتهم فكان فيه من البيان والتبيان والنهج مما يعجز المخلوقات ان يأتوا بمثله ...!!
التحدي الصريح المُبْهِت.
. لقد تحدى الله عز وجل صراحة في كتابه العزيز أي كائن ذي عقل أن يأتي بمثل هذا القرآن، في شموله للمنهج القويم للبشر في حياتهم، حتى يبلغوا الفلاح بعد مماتهم، وحتى يؤدوا ما أراده الله منهم على النحو الذي أراده الله. هذا فضلاً عن التحدي بالإتيان بمثل هذا المنهج في كتاب بليغ فصيح، جلي بهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [ الإسراء:88] ولكن أنَى لمخلوقاتٍ لله أن يأتوا بكلام مثل كلام الله مهما كانت قوة قريحتهم وفصاحتهم؟! وإمعاناً في تحدي المنكرين أن القرآن الكريم من لدن عزيز حكيم، فقد تحدى الله العالمين أن يأتوا بعشر سور من مثل سور القرآن، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13] فلما كان هذا بعيد المنال عن البشر وأشعرهم بعجزهم فقد تحداهم الله بالإتيان بسورة واحدة من مثل القرآن الكريم مهما صغرت هذه السورة، قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23-24].
ولقد فتشت في بطون الكتب والمصادر وما كتبه أرباب اللغة العربية لاساهم باحياء اليوم العالمي للغة العرب فكانت هذه الصيد الجميل مما كتبه اساطين لغة العرب في فصاحة الكلام وغرابته وخفيفه وثقيله وعذبه ودرره ...!!
جواهر البلاغة: في المعاني والبيان والبديع
في معرفة الفصاحة والبلاغة١
(١) الفصاحة
الفصاحة: تُطلق في اللغة على معانٍ كثيرة؛ منها البيان والظهور، قال الله تعالى: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا؛ أي أبين منِّي منطقًا، وأظهر مني قولًا.
ويقال: أفصح الصبي في منطقه إذا بان وظهر كلامه.
وقالت العرب: أفصح الصبح إذا أضاء، وفصح أيضًا.
وأفصح الأعجمي: إذا أبان بعد أن لم يكن يُفصح ويُبين.
وفصح اللسان: إذا عبَّر عمَّا في نفسه، وأظهره على وجه الصواب دون الخطأ.
والفصاحة —
في اصطلاح أهل المعاني: عبارة عن الألفاظ البيِّنة الظاهرة، المتبادَرة إلى الفهم، والمأنوسة الاستعمال بين الكُتاب والشعراء لمكان حُسنها.
وهي تقع وصفًا للكلمة، والكلام، والمتكلِّم، حسبما يعتبر الكاتب اللفظة وحدها، أو مسبوكة مع أخواتها.
(١-١) فصاحة الكلمة
(١) خلوصها من تنافر الحروف؛ لتكون رقيقة عذبة، تخف على اللسان، ولا تَثْقُل على السمع؛ فلفظ «أسد» أخف من لفظ «فَدَوْكَسٍ»!
(٢) خلوصها من الغرابة، وتكون مألوفة الاستعمال.
(٣) خلوصها من مخالفة القياس الصرفي؛ حتى لا تكون شاذة.
(٤) خلوصها من الكراهة في السمع.٢
أما «تنافر الحروف» فهو وصف في الكلمة يوجب ثِقلها على السمع وصعوبة أدائها باللسان؛ بسبب كون حروف الكلمة متقاربة المخارج وهو نوعان:
(١)شديد في الثقل؛ كالظَّش (للموضع الخشن)، ونحو: هُعْجُع (لنبت ترعاه الإبل) من قول أعرابي:
تركتُ نَاقتي ترْعَى الهُعْجُع
(٢)وخفيف في الثقل؛ كالنقنقة (لصوت الضفادع) والنُّقَاخ (للماء العذب الصافي)، ونحو: مستشزرات (بمعنى مرتفعات) من قول امرئ القيس يصف شَعر ابنة عمِّه:
غدائرهُ مُسْتشْزِراتٌ إلى العلا تَضِل العقاصَ في مُثنًّى ومُرْسَل
(٣)ولا ضابط لمعرفة الثقل والصعوبة سوى الذوق السليم، والحِس الصادق الناجمَيْن عن النظر في كلام البلغاء، وممارسة أساليبهم
.(٤)وأما غرابة الاستعمال فهي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، ولا مألوفة الاستعمال عند العرب الفصحاء؛ لأنَّ المعوَّل عليه في ذلك استعمالهم.
والغرابة قسمان:
القسم الأول: ما يُوجب حيرة السامع في فَهْم المعنى المقصود من الكلمة؛ لترددها بين معنيين أو أكثر بلا قرينة.
وذلك في الألفاظ المشتركة «كمُسرَّج» من قول رُؤبَة بن العَجاج:
ومُقْلةً وحَاجِبًا مُزَججَا وفاحمًا ومَرْسنًا مُسَرَّجا٥
فلا يُعلم ما أراد بقوله: «مُسرَّجا» حتى اختلف أئمة اللغة في تخريجه.
فقال «ابن دريد»: يريد أن أنفه في الاستواء والدِّقة كالسيف السُّريجي.
وقال «ابن سِيدَه»: يريد أنه في البريق واللمعان كالسراج.٦
فلهذا يحتار السامع في فهم المعنى المقصود لتردد الكلمة بين معنيين.
بدون «قرينة» تُعيِّن المقصود منهما.
فلأجل هذا التردد، ولأجل أن مادة «فعل» تدل على مجرد نسبة شيء لشيء، لا على النسبة التشبيهية؛ كانت الكلمة غير ظاهرة الدلالة على المعنى فصارت غريبة.
وأما مع القرينة فلا غرابة، كلفظة «عَزَّر» في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ فإنها مشتركة بين التعظيم والإهانة، ولكن ذكر النصر قرينة على إرادة التعظيم.
القسم الثاني: ما يُعاب استعماله لاحتياج إلى تتبُّع اللغات، وكثرة البحث والتفتيش في «المعاجم وقواميس متن اللغة المطولة».
(أ)فمنه ما يُعثر فيها على تفسير بَعْدَ كَدٍّ وبحثٍ، نحو: تكأكأتُم «بمعنى اجتمعتم» من قول عيسى بن عمرو النحوي: ما لكم تَكأكَأتُم٧ عليَّ كَتكأكُئِكُم على ذي جنَّة٨ افرنقعوا عني.٩ ونحو «مُشمَخِرٍّ» في قول بشر بن عوانة يصف الأسد:
فخرَّ مُدَرَّجًا بِدمٍ كأني هَدَمْتُ به بِناءً مُشمَخِرا
(ب)ومنه ما لم يُعثر على تفسيره نحو «جَحْلَنْجَع» من قول أبي الْهَمَيْسَع:
مِنْ طَمحة صَبِيرها جَحلنَجَع١٠ لم يحضها الجدول بالتنوُّع
وأما «مخالفة القياس» فهو كون الكلمة شاذة غير جارية على القانون الصرفي المستنبط من كلام العرب، بأن تكون على خلاف ما ثبت فيها عن العُرف العربي الصحيح،١١ مثل «الأجْلَل» في قول أبي النَّجْم:
الحمدُ للهِ العَليِّ الأجْلَلِ الواحدِ الفَرْدِ القَدِيم الأوَّلِ
فإن القياس «الأجَلَّ» بالإدغام، ولا مسَوِّغ لفكهِ.
وكقطع همزة وصل «إثنين» في قول جميل:
ألا لا أرى إثنين أحسن شِيمة على حدثان الدَّهر منِّي ومن جَمل١٢
ويُستثنى من ذلك ما ثبت استعماله لدى العرب مخالفًا للقياس ولكنه فصيح.
لهذا لم يخرُج عن الفصاحة لفظتا «المشرق والمغرب» بكسر الراء، والقياس فتحها فيهما. وكذا لفظتا «المُدهُن والمُنْخُل»، والقياس فيهما مِفْعَل بكسر الميم وفتح العين. وكذا نحو قولهم: «عَور» والقياس عار؛ لتحرُّك الواو وانفتاح ما قبلها.
وأما «الكراهة في السمع» فهو كون الكلمة وحشية، وتأنفها الطِّباع، وتمجها الأسماع، وتنبو عنها كما تنبو عن سماع الأصوات المنكرة «كالجِرِشَّى» للنفْس في قول أبي الطيب المُتنبيِّ يمدح سيف الدَّولة:
مُبَارَكُ الاسْم أغرُّ اللقبْ كَريمُ الجِرِشَّى شريفُ النسَبْ
وملخص القول: إن فصاحة الكلمة تكون بسلامتها من تنافر الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس، ومن الابتذال والضعف. فإذا لصق بالكلمة عيب من هذه العيوب السابقة وجب نبذها واطِّراحها
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha