رياض سعد
طالما ردد فلاسفة التاريخ هذه المقولة : (( الهدف من دراسة التاريخ ليس اجترار الآلام ، ونبش الماضي بروائحه المتعفنة واسترجاع الصـور المبكيـة ، وإنما هو أخذ العبرة من الماضي ... )) .
الماضي الذي كلف الامة العراقية ولاسيما الاغلبية الاصيلة منها عشرات الآلاف من خيرة أبنائها بل الملايين من الضحايا العراقيين ومن مختلف الطوائف والطبقات والفئات والجماعات والشخصيات ... ، ولكي لا يضيع الماضي سـدى ، فنستفيد منه في الحاضر ، وعندما أتحدث عن المذابح والمقابر الجماعية واعدامات ( الجملة ) واساليب التعذيب البشعة وطرق الموت والعذاب الرهيبة في سجون الفئة الهجينة ومعتقلات صدام والبعث السرية و التي مارسها نظام البعث التكريتي وصدام في العراق ، أو عندما اسلط الاضواء بصورة تفصيلية على أنواع التعذيب وأساليبه الوحشية ؛ لا أقصد منها سوى أن نعتبر من الماضي المؤلم ، وأن نتخذ كافة الاجراءات والاحتياطات كي لا يعود هذا الماضي الاسود ولا يرجع ذلك الزمن القبيح الاغبر ، ونجتث الأسباب المؤدية لهذا الماضي المروع من جذورها ، ونقف بوجه كل المقدمات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والتربوية - المباشرة وغير المباشرة - التي تفضي الى تلك النتائج الاجرامية والارهابية من جديد – لا سامح الله - .
تعتبر طريقة التعذيب بواسطة الكهرباء من الطرق المفضلة لدى زبانية الحكومات الطائفية العنصرية الهجينة ولاسيما في الحكم القومي العارفي الاول والحكم البعثي التكريتي الصدامي اللعين ؛ فطالما عذب الجلادون السجناء العراقيين بالكهرباء في المعتقلات السرية والسجون البعثية الصدامية ؛ وكان الضحايا والمعتقلون والسجناء الذين يتعرضون للتعذيب بالكهرباء يفقدون الوعي تماما من شدة الالم وقبلها يصابون بالهلع والصراخ والعويل والارتجاف والاهتزاز ... .
ومن الذين تعرضوا للتعذيب بهذه الطريقة الرهيبة ؛ السيد مرتضى الدنيناوي - من اهالي مدينة الثورة - والذي ادلى بشهادته قائلا : (( تم اقتيادي إلى بناية امن صدام في منطقة جميلة داخل سيارة وأنا معصوب العينين ؛ و بقيت هناك 90 يوما عُذبت خلالها بالكهرباء في كامل أنحاء الجسد ؛ اذ استعملوا الكهرباء في اجزاء حساسة من جسمي , بما في ذلك الأذنان والأنف واللسان والرقبة واليدان والأعضاء التناسلية والمخرج والقدمان ... )) .
وكذلك ادلى السيد مجيد الموسوي – من سكنة منطقة الحبيبة في بغداد – بشهادته حول هذه الطريقة قائلا : (( في البدء اعتقلوني ليلا واخذوني الى دائرة الامن العامة ؛ و وضعوني في زنزانة انفرادية وانا اسمع اصوات واهات المعذبين واستغاثات وصراخ الضحايا طوال الليل والنهار ؛ وجاء دوري واخذوني الى غرفة التعذيب وضربوني – ( الفلقة ) - على قدمي وفي الأخير تورمت قدماي ، وسالت منهما الدماء لدرجة لم أعد أستطع المشي ، لذا كانوا (يسحلوني ) على الأرض لإكمال التحقيق ... ؛ ثم اخذوني الى غرفة تعذيب ثانية مرة اخرى , واجلسوني على كرسي كهربائي وعندما ارادوا تشغيل الكهرباء لم يعمل الكرسي – لسبب ما لا اعرفه – فقال المحقق : ( انزلوا هذا الساحر الخميني وفتشوه لعله يحمل خرزة او محبس ... ) وخلعوا خاتما كان بيدي ؛ ونادوا على احد الجلادين ليتفحص امر الكرسي الكهربائي وقام بإعداده واصلاحه ... وقد اجلسوني مرة ثانية عليه ثم أطلقوا التيار الكهربائي في جسمي ، حتى فقدت رشدي ، وغبت عن الوعي عدة مرات ، فيلقون بالماء على وجهي ، ويكررون التيار الكهربائي … ؛ عشت لحظات رهيبة والام حادة وكأن اعضاء جسمي تتمزق بالحراب ... )) .
ان حال الاغلبية العراقية الاصيلة في العهد التكريتي الصدامي اللعين لا تسر عدو ولا صديق , ويصعب تصويرها للقراء المعاصرين ر من الذين لم يعيشوا تلك الايام الدموية الرهيبة ؛ فكل الشيعة كانوا متهمون وبلا استثناء : رجالهم ونساؤهم ، أطفالهم وشيوخهم ، عربهم وعجمهم , البعثي منهم والمستقل , الفقير والغني , الموظف والكاسب , الملتزم دينيا والمتهتك والمستهتر والمتحلل سواء ... ؛ كلهم متهمون ، يجب أن يسحقوا ويقتلوا – بالحروب او الامراض او الجوع او السجون والتعذيب او الاعدامات والمقابر الجماعية ... - لا يهم , المهم ابادتهم جميعا ، وأن تملأ بهم السجون والمعتقلات ، ويذبحوا ويتسلى بهم الساديون ، أزلام النظام التكريتي الصدامي الهجين من الذين نفخ فيهم المجرم السفاح صديم بن صبحة الحقـد الطائفـي والعنصري والمناطقي ... ، بل وسـخرهم لذبـح المواطنين العراقيين رجالاً ونسـاء ، من جميع الفـئات ، والأعمـار والأجناس ... ؛ و كانوا - احيانا - أثناء حالات الاعتقال يضربون المعتقلين وأي شخص تطاله أيديهم ، حتى الجيران الذين ينظرون من النوافذ ، كان يطلب منهم عدم الخروج او النظر اليهم , فقد كان ديدنهم البحث عن أي خطأ عابر او سبب تافه لتعريض أي شخص شيعي – بل اي عراقي اصيل اخر - للضرب والاعتقال والاهانة ... ؛ تصورا ان الفنان العراقي نزار علوان عندما قابل المجرم عدي بن المجرم صدام لغرض طلب مساعدته في امر ما , وادخلوه عليه ولم يفهم من كلام عدي شيئا لأنه كان عي اللسان ؛ الا ان الفنان نزار علوان فهم من عدي امرا واحدا , اذ سأله اين تسكن ؟ فقال له الفنان : انه من مدينة الثورة ؛ عندها غضب المجرم عدي ونادى على الزبانية فآخذوه ضربا وركلا ورفسا من غرفة المجرم عدي حتى الباب الخارجي للجنة الاولمبية , بحيث سألهم احد الحرس في الخارج عن سبب ضرب الفنان , فقالوا له انه اغضب الاستاذ ؛ فنهال عليه ضربا على وجهه حتى سالت الدماء منه ... , و ولى هاربا والدماء تسيل منه ... ؛ غبي من يعتقد ان الدخيل والعميل يقضي حاجة للأصيل والنبيل , واحمق من يظن ان الاعداء والعملاء يرحمون الاصلاء والنبلاء عندما يتمكنون منهم ... ؛ ان الجرائم والمجازر والمظالم التي ارتكبها رجالات الفئة الهجينة والطغمة التكريتية والعصابة الصدامية والشراذم البعثية ؛ عجـز المغول والتتار والعثمانيون والبريطانيون على أن يفعلوا مثلها .
و نقلًا عن إحدى المجاهدات السجينات ، أخبرتها الحاجّة سميرة وقتها عن التعذيب الذي تعرضت له ، تقول :
(( في أحد أيام التّعذيب وبعد منتصف الليل، جاء المجرم المدعو مهدي الدليمي، ومعه بعض مساعديه وكانوا مخمورين، قام أحدهم بتعليقي بالمروحة من شعري وصار المجرم يضربني بالعصا على جميعِ أجزاء جسدي بطريقةٍ وحشية وغريبة، ثم إستخدم الكهرباء ، فلما يَئِسَ إستخدم التّعذيب النّفسي، بيد أني لم أعترف على أحد، وكنت أثناء لحظات توقفه عن تعذيبي أُرَدّد آيات الذكر الحكيم، وأستشعر وجود الله تعالى وكان تأثير ذلك على روحي عجيبًا غريبًا ... ؛ كان عندما يَتعب من تعذيبي يرجع إلى كرسيه ويُشارك مُساعديهِ وأعوانه القهقهة والطرائِف الماجنة الفاضحة، وبينما كُنتِ معلقةً في السقف متمتمةً مع الّذي لا إلا هو، صار يسخر منّي ويقول : هُنا يا ... الإتصالات مقطوعة، فمع من تتصلين في هذا الليل؟ فيجيبه أحدهم؛ سيدي لعلها تتصل عِبرَ الأقمار الصناعية، وتبدأ القهقهة من جديد بطريقةٍ حيوانية ...)) (1) .
وقد اخبرني الشيخ رحيم صحن الازيرجاوي عن فترة اعتقاله في الامن العامة ومن ثم الرضوانية , قائلا : (( ان الزبانية في المعتقل عذبوه بالكهرباء بطرق مختلفة : الاولى عبر الصاعق الكهربائي في انحاء متفرقة من الجسد مع رطوبة المكان , والثانية من خلال ادخال سلك معدني رفيع جدا في فتحة القضيب وتوصيل الكهرباء اليه , والثالثة باستخدام سلك كهربائي يربط باللسان واصابع اليدين والقدمين ومن ثم توصيل الكهرباء الى جسدي , والرابعة كانت من خلال جلوسي على كرسي الكهرباء – عاري الجسد - ؛ وقد شعرت ان عضلاتي قد تقلصت وانكمشت وان بعض وظائف اعضاء جسمي قد تعطلت ووصل الالم الى رأسي , و شعرت أن الكهرباء تسللت إلى كل خلية داخل جسدي، وتعرضت للإغماء أكثر من مرة ... )) .
ان انظمة الحكومات الهجينة ولاسيما السلطات القومية العفنة العارفية والطغمة البعثية التكريتية الصدامية القذرة تمارس التعذيب لعدة أسباب : أحدها هو كسر إرادة المعتقل العراقي لتطويعه كأداة في يد الجلاد ، وبعدها يتمكن من غرضه الدنيء ، وهو إما انتزاع اعتراف ما أو تسخيره وتجنيده للتعاون مع السلطة الظالمة ضد أعوانه وزملاءه ورفقاء دربه من ابناء الامة العراقية النبيلة .
و قد ادلى احد الاطباء المختصين بهذا الجانب قائلا : (( أن قوات الأمن تمارس بالعادة التعذيب النفسي منذ لحظات الاعتقال الأولى : هذه هي اللحظة التي يجرد فيها الضحية من جميع الحقوق القانونية والإنسانية ، إذ تقتحم القوات الامنية المنزل بدون استئذان وتبدأ بضرب الضحية بطريقة مهينة أمام أهله وجيرانه ؛ هذه اللحظة تترك الأثر السلبي الأكبر في نفس المعتقل ، فهو بالنسبة لأهله رب الأسرة المعظم أو الابن المدلل ... ، ومعاملته بهذا الشكل أمامهم تشعره بالمذلة والضعة ، ثم ينزلونه على تلك الحالة ليراه الجيران وأهل المنطقة ... ، وتظل تلك اللحظات عالقة بأذهان الضحايا مدى الحياة ... , و يلجأ ممارسو التعذيب في الغالب لاستخدام حيل الدفاع النفسي، فهم يبررون ممارستهم التعذيب لأنفسهم من أجل الشعور براحة نفسية ، ويعتبرونه شيئًا مشروعًا هدفه نبيل من أجل أمن الوطن أو المواطن او الطائفة او الدين او الامة العربية او الاسلامية او مبادئ الحزب والثورة ... ؛ ويتحدث الطبيب عن الذين يقومون بممارسة التعذيب ويصنفهم بثلاثة شخصيات : هناك أشخاص مصابون بدرجة عالية من السادية وهؤلاء يستمتعون بتعذيب الآخرين ويكون هدفهم الأول هو إذلال الآخرين لشعورهم بلذة داخلية في ممارسة هذا الأمر ؛ النوع الثاني هم المصابون باضطراب الشخصية السيكوباتية : وهؤلاء عدوانيين بالفطرة وتنبع الرغبة في التعذيب لدى بعضهم داخليًا ؛ والنوع الثالث : هم المسيرون أو مطيعي الأوامر وهؤلاء تقودهم الطاعة العمياء لأوامر الرؤساء ، وأحيانًا يجتهدون ويبالغون في تنفيذها أملًا منهم في نيل مكافأة واستحسان رؤسائهم .
أما سبب اللجوء إلى التعذيب مؤسسيًا فيرجع إلى عدة أسباب ، كما يقول الطبيب النفسي ، بينها كسر إرادة الإنسان والتشكيك في ثقته بنفسه بهدف إما نزع اعتراف أو تجنيده للوشاية بأقرانه وأصدقائه ، أو مجرد إثناءه عن العودة لممارسة النشاط السياسي أو الاجتماعي الذي اعتقل بسببه ، وبالتالي تلجأ السلطة إلى هتك العرض والتحرش الجنسي بالضحية لأن هذا الأمر هو أكثر ما يكسر الأنا العليا لدى الإنسان ويهين كرامته : يشعر الضحية حينها بأنه لم ينل من وقفوا ضد الظلم ، سوى الإهانة والذل والمهانة، والآخرين لا يدفعون أي ثمن مثله ، وتعتقد السلطة أن هذا الأمر سيقودهم إلى التخلي عن أنشطتهم وآرائهم ...)) .
وقد اخبرني المعتقل – سابقا والشهيد لاحقا – البطل المرحوم جمعة محمد الدراجي عن تجربته داخل المعتقل قائلا : (( ... عندما ادخلونا ؛ أصبحت أجسادنا تتلقى الضربة تلو الضربة ، ما بين قدم ويد وعصي ، وبعدها عبرت باباً حديدياً صغيراً لأجد من يرميني على الأرض ، ويبدأ في صعقي بالكهرباء بواسطة عصي كهربائية ، ويصيح : ( خونة , سفلة , خمينية , شيعة , اخوات ال ك ح ب ة ... ) ، كل هذا وأنا مكبّل اليدين ، فأصبحت أتذوق ألواناً من العذاب ، وأسير داخل ممرات ، ولكن ليس على قدمي ، فقد تعلمت السير على بطني حتى دخلت إحدى الزنازين ؛ ليقوموا بنزع ملابسنا وتشغيل المراوح ، لم يتركوا لنا إلا لباس يغطي عوراتنا، ولم تخلُ مسامعنا من السباب والشتائم الكثيرة والفاحشة ... ؛ واخذوني مرة اخرى ومارسوا الكي بالكهرباء في مناطق عدة من الجسم مع الضرب المبرح حتى الإغماء...)) .
وعند مراجعتك لملفات مؤسسة السجناء في بغداد وتصفحت اوراق وشهادات المعتقلين والسجناء وذكريات الضحايا والشهداء ... تصدم لهول ما تسمع به وتقرءه ؛ اذ توجد مئات الروايات الموثقة والتي تؤكد ان زبانية البعث ومجرمي تكريت والعوجة وجلادي الفئة الهجينة اعتقوا مئات الاطفال والصبيان والمراهقين ؛ أطفال بعضهم لم يتجاوز عمره 11سنة ... , اذ يتم جرهم من شعورهم ودفعهم بقوة الى غرف التحقيق والتعذيب ؛ و يعُلّقوا من السقف حتى تنخلع أكتافهم ، ويضُربوا مرارا وتكرارا بالعصي و( الكيبلات ) ، ويصُعقوا بالكهرباء في مناطق مختلفة من الجسد ، و يجبروا على المكوث في أوضاع مؤلمة وقاسية ... وبالرغم من صراخ الاطفال وعويل الصبيان وبكاء المراهقين ... لا يهتم الزبانية لهم ولا ترق قلوبهم الحاقدة على هذه المناظر البشعة التي تتصدع لهولها الجبال الرواسي ... , احتجزت قوات الأمن البعثية والتكريتية والصدامية مئات الأطفال منذ توليهم السلطة , و غالبا ما يُعتقلون دون إخبارهم بالسبب أو لأنهم ببساطة ذهبوا لأداء الصلاة في هذه الحسينية او ذلك المسجد , او لثرثرة صدرت منهم غير مقصودة ... ؛ وفي احدى المرات جاءوا بصبي من مدينة الثورة لا يتجاوز عمره 12 سنة ؛ متهما بكتابة شعار ضد البعث والثورة وصدام على السبورة في متوسطة الجولان في منطقة الحبيبة , وخلال اليومين الأولين من استجوابه واعتقاله ، صعقه الزبانية بالكهرباء في عضوه الذكري وفي رأسه ولسانه ... وفي اليوم الثالث علقوه من ذراعيه فأصيب بخلع في الكتفين ... ثم تركوه في ممر لثلاثة أيام وكان الوقت شتاء ، وكان يجلس على الأرض دون غطاء , ويضرب من قبل زبانية الامن بالعصي والركلات والصفعات حتى سالت الدماء من جسمه الطري وتجمد الدم عليه ... وفي هذا الاثناء جاء معتقل كبير السن وشاهد حالة الصبي ورق لحاله و مد يده ليضعه فوق رأسه وقال له : (( ابني اصبر الله وياك لا تخاف )) و بعدها توجه الى ضابط التحقيق التكريتي وقال له : (( انه جاهل مجرد طفل ارحموه، ارجو ان لا تكثروا عليه التعذيب )) , فنهال الزبانية بالصفعات على وجه الشيخ والضابط يضحك ... ثم ادخلوه غرفة التعذيب , وسرت تيارات الكهرباء المتكررة في جسمه مع دورة الدم وارتجفت يداه وتنشج جسمه وعض لسانه من شدة الوجع وكاد ان يقطع لسانه ... وقد قضى نحبه ؛ وذلك بعد تعرضه للصعق بالكهرباء والضرب المبرح على يد عناصر الفئة الهجينة الاجرامية ؛ يبدو أن الطفولة والكهولة والشيخوخة لا تشفع عند السجان الصدامي والجلاد التكريتي في معتقلات البعث وسجون الفئة الهجينة ، فكل من كان فيها منتهك ... ؛ وقد ذكر احد السجناء شهادته : (( رأيت طفلا اغتصبوه أمام أبيه , وهما يصرخان معا من هول الصدمة ... )) هكذا كان يفعل الصداميون والبعثيون بنا ... .
إن هذا الأسلوب المرعب – التعذيب بالكهرباء - من التنكيل يحدث ألماً فظيغاً في الجسد كما يؤلم الذاكرة أيضاً , حيث يوضع الضحية على سرير معدني أو ما شابه بعد أن يقيد بالأصفاد وربما وضعوا ملاقط الكهرباء على الأماكن الحساسة من الضحية ( الذكر أو الشرج) ثم يمرروا عليه الكهرباء لمدة طويلة قد تطول لساعات ... ؛ ففي أحد السجون التكريتية الصدامية وما أكثرها على الأرض قال أحد الضحايا : وضع الجلادون الأسلاك الكهربائية في أذني وفتحة الشرج وأعضائي التناسلية , و إن الألم والعذاب الذي سلط علي يكاد لا يوصف ومن ذلك الوقت انتابني الرعب وأصبحت دقات قلبي أسرع و إلى الأن أشعر وكأن جسدي ممتلئ بالأشواك... .
ان التعذيب بالكهرباء كان من إحدى الوسائل الأكثر ترويعاً للسجناء في العراق ، و ليس لمن يتعرضون للتعذيب فقط، بل لمن يسمعون أصوات التعذيب أيضاً ، فأصوات الاستغاثات كافية لبث الرعب والجزع في نفوس بقية السجناء ، لدفعهم لمساحات من القلق والصراع النفسي عوضاً عن اضطرابات النوم والهلع من تعرضهم عاجلاً أو آجلاً للتعذيب بالكهرباء ... , و حالات التعذيب المروعة داخل السجون البعثية الصدامية قد تجبر أحياناً بعض السجناء للبحث عن أي وسيلة لإنهاء حياتهم ... .
وفي تقرير علمي حول الآثار الجسدية والنفسية للتعذيب بالكهرباء حيث يقول التقرير : ( يسبب الصعق الكهربائي إحساساً يصعب وصفه , هزة بدنية ونفسية عنيفة تصحبها رعشات تشنجية وفقدان السيطرة العضلية مما يعطي الضحية إحساساً بالضياع , فالضحية في خضم الإرتعاش والشرارات يصرخ بكل ما أوتي من قوة باحثاً عن أي شيء يقبض عليه وهو لا يستطيع التفكير في أي شيء آخر ولا يستطيع صرف انتباهه عن هذا الألم الرهيب , فيصبح حينئذٍ أي تعذيب إضافي تخفيفاً عنه ، لأنه يمَكنه من صرف انتباهه عن الألم الأساسي ومن الإحساس بالأرض وبجسده الذي يبدو وكأنه ينفلت منه , فالألم الإضافي يأتيه منجياً والقرع بالعصا يأتيه منقذاً فيحاول الضحية قتل نفسه بضرب رأسه على الأرض مراراً , بيد أنه لا يفلح كونه في أغلب الأحيان يكون مكبلاً بالأغلال ...)) .
ان النمط الموغل في الظلم والاجرام والارهاب داخل السجون التكريتية ومعتقلات الفئة الهجينة يخلق معتقلين يعانون من صعوبة في التعافي من ماضيهم ومن آثار التعذيب ، إذ يتخرج المعتقلون من السجون أناساً - “لا متكيفين” - أو أشبه بمشوهي حقبة “جرجت”، فيعيش المعتقلون بعد الإفراج عنهم مع عذابات نفسية لا نهاية لها ، فيما لا يلقى السجان عقوبة على تحويل المعتقل – الجنائي او السياسي - إلى شخص أكثر إجراماً أو شخص منهك نفسياً ... .
وقد افادت المعتقلة سحر جابر العطا في برنامج ملفات الخرافة من قناة بلادي الفضائية بشهادتها قائلة : بانها تعرضت ل الكاوية او اللاسعة الكهربائية في غرفة جدرانها خشبية وارضيتها من الكاشي وان المحقق نفسه يعذب بها في غرفة مساحتها 3 ×3 متر ؛ وقالت ان اشد تعذيب تعرضت له هو التعذيب بالكهرباء .
وادلى احد السجناء لي بشهادته قائلا : (( عايشت سجناء تعرضوا للتعذيب بالصعق الكهربائي الذي يؤدي إلى حروق في الجسم احيانا , وقد يفقدهم القدرة على الحركة نهائياً ، ومن الذكريات المؤلمة التي لم ولن انساها اني شاهدت معتقلا مسنًا فوق الستين عذبوه وعاملوه بقسوة دون مراعاة لسنه ولم يراعوا وضعه الصحي و تعرض للتعذيب بالصعق الكهربائي ومن ثم قضى نحبه والتحق بقوافل الشهداء ... )) .
كان المحققون الصداميون والجلادون الطائفيون لا يخفون عنصريتهم المناطقية والطائفية ويصرحون بها جهارا نهارا امام السجناء والمعتقلين ، وطالما اتهموا ابناء الاغلبية الاصيلة واحرار الامة العراقية بالخيانة والعمالة والكفر والشعوبية وانعدام الوطنية ..., و توجه لهم تهم من قبيل : الانتماء لحزب الدعوة او احدى الحركات السياسية او التآمر على الحزب والثورة او الطائفية ومعاداة النظام البعثي او سب الرئيس ... الخ ؛ والتي تترتب عليها أحكام بالإعدام .
وقد ادلت بالشهادة التالية احدى النساء المناضلات المعتقلات في سجون البعث وصدام : (( ... أذكر أنني جاهدت نفسي من اجل النوم الا انني لم استطع بسبب اصوات المعذبين وصيحات المعتقلين ؛ واذا بباب الزنزانة يفتح بقوة واسحب كما الحيوانات سوقا وبلا رحمة ... , و بدأت عمليات الصعق بالكهرباء، و يا لألمها الذي لا يُطاق ؛ فلقد كان جسدي يرتعش بشكل خارج عن نطاق السيطرة , فلم يكن لدي أدني تحكم بجسدي ... , كان التعذيب صعبا لا تشعر بذروته إلا عندما تعود إلى الزنزانة ، حينها تشعر بالكهرباء تسير مع دمائك ، وترتجف اليدان ويتخدر الجسم , واستمر واستجوابي لعدة أيام متواصلة دون فترة استراحة ، اذ تم تقييدي مرة اخرى في كرسي وصعقي بالكهرباء ... , و كنت قبل الاعتقال أجريت عملية جراحية أسفل البطن ، فلاحظ الضابط التكريتي مكان العملية ، فأدخل في جرح العملية سلك كهرباء ، وقام بصعقي بالكهرباء داخل جرح العملية ، شعرت حينها أن روحي تخرج من جسدي ، ولم أشعر سوى بالدم يسيل على ساقي ، ورأيتها بشكل متقطع خلال غمامة العين، التي كانوا يربطون عيني بها وفقدت الوعي ... )) .
ويروي لي المعتقل السيد محمد الشرع والذي اعتقل في الامن العامة وكان يبلغ من العمر 18 سنة , قائلا : ((إن عناصر الامن الذين احتجزوني قاموا بدفعي نحو زنزانة مكتظة بالشباب في بناية الامن العامة ؛ وذلك بعد الاحداث التي اعقبت اغتيال المرجع الديني محمد محمد صادق الصدر , وسمعت أصواتًا تستغيث لم أميزها وأنا ملقى على الأرض مع مجموعة من الشباب في زنزانة ضيقة ولا تتسع لهذا العدد , ولم تمض ساعات واذا بالجلاد ينادي علي بالمجيء معه الى غرفة التحقيق ؛ وتعرضت لعملية تعذيب شرسة من خلال الصعق بالكهرباء , ووضع الكهرباء في أماكن حساسة من جسدي وضربي بالعصى الخشبية والصواعق الكهربائية ، وقاموا بتكبيل يدى من الخلف بوضع ( الجامعة الحديدية ) واصبت بحالة الاغماء ؛ وكنت كلما أفيق أتعرض لضرب آخر مبرح حتى أدخل في حالة إغماء أخرى شديدة ، وأثناء إفاقتى رأيت شخصًا واقفا وأنا نائم على الأرض ومكبل اليدين يكلمني ويطلب منى أن أقول له : إنني قتلت بعض الرفاق البعثيين ... ؛ كما قاموا بصعقي بالكهرباء في صدري وبطني وذراعي وموقع الذكورة إلى جانب ضربي بالأيدي والأرجل وأسلاك الكهرباء والعصى الخشبية ( التواثي ) ، وهم يرددون : (( شيعة شروكيه تريدون حكم ... )) وكنت أصرخ من شدة الألم والتعذيب وأقول لهم : إنني بريء ولا علاقة لي بما يحدث ... ولا أعرف أحدًا , وظلوا ينكلون بي ويصرون على تعذيبي بعد أن جردوني من ملابسي وغسلوني بالماء البارد وربطوني بسلسلة حديدية لفت بدني , ثم جاء ضابط اخر في يده صاعق كهربائي ، وكان الضابط يصعق السلسلة، فتقوم السلسلة بنشر الكهرباء في كل جسدي ؛ وكان الألم شديدا إلى درجة أني اعتقدت انها النهاية والموت قادم لا محالة ... )) لقد تفننت حكومات الفئة الهجينة العميلة في ابتكار واستيراد الآلات والادوات التي تجعل المتهمين يتمنون الموت الف مرة للخلاص من العذاب القاسي الذي انزل بهم .
ولم يكتف النظام البعثي التكريتي الصدامي بالتعذيب الكهربائي بل استحدث طريقة جديدة للإعدام من خلال الكرسي الكهربائي حيث يُربط الشخص المحكوم عليه إلى كرسي مصنوع خصيصًا لهذه العملية ويُصعق بالكهرباء عبر أقطاب كهربائية توضع على جسمه ؛ والتي يعتبرها كثيرون اليوم من اشد صنوف التعذيب والاعدام واكثرها قسوة على الضحية ، فقد بدت من العنف والبشاعة حتى أن مقلتي ضحيتها كانتا تخرجان من وقابيها – أحيانا - لتستقر على وجنتيه، وكان من المعتاد أن يستشيط الشعر خلال سريان الكهرباء وكأنه يشتعل ... ؛ واليكم واحدة من مئات قصص الاعدام بالكرسي الكهربائي ؛ الا وهي قصة الشهيدة البطلة المناضلة ميسون الاسدي اذ حكمت عليها محكمة الثورة سيئة الصيت والسمعة بالإعدام وقد اخذت بعدها الى سجن الرشاد وبعد شهرين من سجنها في الرشاد وفي العام 1985 جاءت سيارة من ابو غريب لتأخذها الى ابو غريب للإعدام بمعية احد الضباط و الجلاد ( ابو وداد ) ومدير السجن حسن العامري , ... وقبل الخروج من سجن الرشاد القت خطبة تشجع فيها السجينات على مقارعة النظام وقالت ان صدام ونظام البعث زائل لا محالة ... وتمشي وهي مسرورة رافعة الراس وتترنم بالأناشيد الدينية الحماسية بين السجينات : ( هذي الجنان مراحي وعطرها من جراحي ) ... وفي هذه الاثناء صرخ ابو دواد وهو يرتدي ملابس سوداء وقناع اسود على السجانات ان يأتين ب ميسون ...و لأنها سبت صدام وتهجمت على النظام الغاشم ؛ ورفعت تقارير فورية وسريعة بما حدث داخل سجن الرشاد من قبل الزبانية والسجانات ؛ لذلك صدرت اوامر من لجنة السلامة الوطنية التابعة للقصر الجمهوري بإعدامها بالكرسي بدلا من الشنق , وجرى تنفيذ الحكم عليها بصورة بشعة اذ سرت التيارات الكهربائية الى جميع اعضائها وتيبس جسمها وطلبت منهم قطرة ماء ولم يعطوها ... واستمر التعذيب ببطء شديد حتى اصبح وجهها ازرقا من شدة الحرق والكهرباء وعانت كثيرا وهي مربوطة على هذا الكرسي الجهنمي الصدامي الشيطاني ... الى ان رفع المجرمون الفولتية الكهربائية وكادت تحترق من شدة الصعق الكهربائي ... (1)
قد اثبتت التجارب التاريخية والسياسية ان الشخص الدخيل والمرء الهجين من اكثر الناس حقداً و كراهية على ابناء الاغلبية الاصيلة والامة العراقية ، فقد يفعل بأعدائه ومبغضيه والمختلفين معه بل وحتى المسالمين الابرياء – ( المكاريد )- ما قد ترتعش منه الوحوش الضارية و تهتزّ من هوله الجبال ؛ ولعل جريمتي سجن بادوش وسبايكر من الادلة القاطعة على ما ذهبنا اليه انفا .
وقد ادلت السجينة فاطمة حسان محمد بشهادته في برنامج سنوات الدم من قناة البينة قائلة : (( ان الزبانية قطعوا الكهرباء والماء عن سجن الرشاد للنساء – في عقد الثمانينيات - اثر تكبيرة من قبل النساء المعتقلات احتجاجا على سوء المعاملة والتعذيب ...)) .
في الوقت الذي يقطع فيه النظام الكهرباء عن السجون والمعتقلات , وتحرم العديد من مدن وقرى الجنوب والوسط من الكهرباء في عقد الثمانينات ؛ وانقطاع الكهرباء بشكل متواصل ومستمر وطويل طيلة عقد التسعينات وما تلاه , اذ حرمت محافظات ومدن وقرى العراق من الكهرباء ولاسيما الجنوب والوسط العراقي ... الا انه والحق يقال : على الرغم من شحة الكهرباء الا ان النظام الهجين حرص على توفير الكهرباء مع كافة ادواتها ومعداتها الجهنمية في معتقلات وسجون البعث ؛ كي ينعم المعتقل والسجين العراقي الاصيل بالكهرباء ولكن على طريقة الفئة الهجينة والبعث السافل وصدام العار .
ولا عجب ان يبغض النبيل الحر شرير عميل وان يكره الوطني الاصيل اجنبي دخيل ؛ فما هؤلاء الانذال الا شرذمة من بقايا العثمنة وعصابة من رعايا الانكليز , ومن شبه اباه فما ظلم , فقد جاء بهم الاتراك من كل حدب وصوب , ولهم في سيرة المجرمين العثمانيين اسوة حسنة ؛ فبعد دخول الأتراك العثمانيين أرض العراق، تم استخدام الخازوق على نطاق واسع و تفنن العثمانيون في القتل بالخازوق وأجروا العديد من الدراسات حول استخدامه، وكانت الدولة العثمانية تدفع المكافآت للجلاد الماهر الذي يستطيع أن يطيل عمر الضحية على الخازوق لأطول فترة ممكنة تصل إلى أسبوع كامل ، حيث يتم إدخال الخازوق من فتحة الشرج ليخرج من أعلى الكتف الأيمن دون أن يمس الأجزاء الحيوية من جسم الإنسان كالقلب والرئتين بأذى قد يودى بحياة المُخَوزَق سريعاً. أما إذا مات المُخَوزَق أثناء عملية الخَوزَقَة، فيحاكم الجلاد بتهمة الإهمال الجسيم وقد يتعرض لتنفيذ نفس العقوبة عقابا له على إهماله .
......................................................................................................................
1- سلسلة مذكرات سجينة للأستاذ علي العراقي .
https://telegram.me/buratha