رياض سعد
في الوقت الذي تخلت فيه بريطانيا عن سيطرتها السياسية المباشرة على المنطقة العربية والعراق وانسحبت منها عسكريا ؛ إلا أنها احتفظت بقدر كبير من النفوذ حيث استمرت الصلات الوثيقة في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية بين بريطانيا والعراق ودول الخليج العربي قائمةً حتى يومنا هذا؛ نعم في العقود الاخيرة تدخل الامريكان معهم في ادارة هذه الملفات الشائكة .
ومن محاسن الصدف ان الكثير من ساسة العراق الان هم من حملة الجنسية البريطانية ولله الحمد ؛ ولا ضير في ذلك ان كانت الامور تصب في مصلحة العراق والامة والاغلبية العراقية من باب السياسة النفعية الواقعية و ( حشر مع الناس عيد ) ؛ الا ان المصيبة تكمن في تبني الفكر المنكوس حيث تجتمع العمالة والخيانة والاغتراب مع تدمير العراق والحاق الضرر والاذى بالأمة والاغلبية العراقية .
وقد عوض البريطانيون دائما نقصهم العددي (مقارنة بالشعوب التي استعمروها) بالدهاء والحنكة وإشعال الفتنة بين القوى الداخلية ... ففي الهند مثلا استطاعت قلة منهم حكم ملايين الهنود بفضل شبكة من المنتفعين وخلق تركيبة اقتصادية تجعل من الصعب الاستغناء عنهم ... , كما جندوا السكان المحليين للقتال معهم أو نيابة عنهم حيث استخدموا الهنود مثلا للقتال في جنوب أفريقيا ، و الافارقة في مصر، والنيباليون في ماليزيا ، وسكان المستعمرات لحماية الجزر البريطانية خلال الحربين العالميتين .
و قد تميز الاستعمار البريطاني عن غيره بأنه اجرامي قاسي و نفعي عملي أكثر منه ثقافي وسياسي ... , فالبريطانيون كان همهم دائما استنزاف الموارد الاقتصادية واستغلال الشعوب المقهورة ، وخلق اسواق ضخمة لصناعاتهم المحلية وتجويع وتركيع تلك الشعوب وشل ارادتها وحركتها وابقاءها في دوامة البؤس والتخلف والمرض ... ؛ لم يهتموا ابدا - ( كالفرنسيين مثلا) - بنشر لغتهم او ثقافتهم او دفع الشعوب المقهورة لاعتناق المسيحية ... , اذ أسس نابليون في القاهرة - بعد حملته على مصر - “ديوان العامة” الذي اختار أغلب أعضائه من بين كبار التجار وبعض العلماء , وكان يهدف من وراء تأسيس هذا الديوان جلب الفئات المشاركة فيه إلى صف الفرنسيين وإتاحة الفرصة لها لتنشيط حركتها الاقتصادية ، في إطار معين وتحت المراقبة الفرنسية , كما كان يهدف من ذلك ضمان حلفاء له من الداخل ضد الاقطاع المملوكي الاجنبي القديم ، وفي ميدان القضاء استحدث نابليون إلى جانب المحاكم الشرعية محكمة القضايا، التي تتركب من 12 قاضيا نصفهم أقباط والنصف الآخر مسلمون , وتهتم بالخلافات بين التجار وبقية السكان وبالإرث وبعض الشكايات , ووضع برنامج صناعي، تم تحقيق جزء منه بإقامة مصانع للأسلحة والنسيج ودبغ الجلود وصنع الجعة والصابون والبارود، وذلك تبعا لحاجة الحملة الفرنسية وجيوشها، وبالتالي استفادت مصر منها لاحقا ... , بعكس الاستعمار البريطاني الذي يفسد في الارض ويسفك الدماء ويخرب العمران ويخلق الفتن ويفتعل الازمات ... .
وعليه فليحذر العراقيون من السفارة البريطانية في العراق فأنها وكر الاشرار والافاعي السامة , واعلموا بان القوات البريطانية التي احتلت العراق عام 1920، والتي انسحبت منه ظاهريا وشكليا عام 1932 بسبب ضغوط وتحركات وثورات الاغلبية العراقية الاصيلة والغيارى من ابناء الامة العراقية وبمرور الايام ولت تلك القوات الغاشمة الا ان خروجها العسكري لم ولن يعني تنازل الانكليز عن العراق او التفريط به ؛ اذ بقت التدخلات في الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية والامنية والعسكرية والدينية والاجتماعية على حالها ... وقد أيد مسؤولون بريطانيون مجازر انقلاب عام 1963 الاسود ؛ فقد ابلغ السفير روجر ألن وزارة الخارجية في لندن بعد اسبوع من الانقلاب ان : "عملية مطاردة الشيوعيين في بغداد والبلدات تتواصل"، لكن "ستبقى هناك مشكلة شيوعية"؛ واضاف ان "الحكومة الحالية تفعل ما باستطاعتها، ولذا فإنني اعتقد انه ينبغي ان ندعمها ونساعدها على المدى البعيد في ترسيخ نفسها كي يتلاشى تدريجياً هذا الخطر الشيوعي" ... وقال السفير روجر ألن في مذكرة الى وزير الخارجية البريطاني، اليك دوغلاس هيوم، في أيار 1963، انه "جرى التعامل مع الخطر الشيوعي بحزم". واضاف ان الحكومة العراقية ذكرت ان هناك حالياً 14 ألف سجين سياسي وان "السجون لا تزال مكتظة بالمعتقلين السياسيين" ؛ وبعد انقلاب 1968رحبت بريطانيا ايضاً بنظام حزب البعث بعد انقلاب تموز 1968الدموي الارهابي , وكتب السفير البريطاني في بغداد قائلاً: "قد يتطلع النظام الجديد الى المملكة المتحدة للحصول على تدريب عسكري ومعدات، وينبغي الاّ نضيّع أي وقت بتعيين ملحق عسكري". وتلقى وزير الدفاع الجديد حردان التكريتي دعوة الى زيارة معرض فارنبره الجوي، وأبلغه السفير البريطاني انه "يبدو لي ان لدينا الآن فرصة لإعادة العلاقات الانكلو-عراقية الى شيء من حميميتها السابقة". وفي معرض رده، "قال الجنرال التكريتي انه خلال النظام البعثي في 1963، كان يقدّر كثيراً الموقف المتعاون لحكومة صاحبة الجلالة" . (1)
واليوم يعود الدور البريطاني الى الواجهة لا سيما في العملية الانتخابية ، او الأحداث الأخيرة في العراق ، عقب إعلان القوات الامريكية انسحابها التدريجي من المنطقة ، وبعد ان سئم الشعب العراقي من التدخل الأميركي المباشر في الحياة السياسية للعراقيين، ومن السياسات الأمريكية الفاشلة التي لم تقدّم الا مزيداً من الخراب بالإضافة الى انشغال الامريكان بالصراعات الدولية الشرقية ، فتتسلّم المملكة المتحدة إدارة المصالح الأميركية والغربية في البلاد بنفس الأسلوب الأمريكي وهو: العمل على توغّل النفوذ البريطاني الى المجتمع العراقي من خلال عناوين "ملمّعة" ظاهرها ثقافي وتعليمي وحقوقي فيما تشّكل في باطنها غرف سوداء سرية لإحكام قبضتها على مفاصل الدولة، وإدارة الصراع ضد محور المقاومة من بوابة العراق ومحاربة الاغلبية العراقية سياسيا واعلاميا ... .
ان هذه الاجراءات السياسية الامريكية الاخيرة ؛ تكشف لنا حقيقة اللعبة ؛ فالأمريكان يعتقدون ان البريطانيين يعرفون المنطقة العربية جيدا ولاسيما مناطق نفوذهم القديمة , وانهم قادرون على اللعب على الحبال وتدوير الزوايا بين الاطراف والجماعات والمكونات في ازمات هذا البلد او ذاك ؛ ، بناءً على معرفتهم الإنثروبولوجية والسياسية التي تحكم مكوّناتها العرقية والدينية والثقافية ؛ بل وارتباط بعض المؤسسات والجماعات الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية بهم منذ امد طويل .
وقد وزعت بريطانيا الأدوار بين عملائها ورجالها المرتزقة ؛ فالسني يواجه الشيعة عسكرياً والاكراد يتحالفون مع السنة لمنع الشيعة من الانفراد بالسلطة أو التحالف المشروط مع الشيعة لتحقيق اكبر قدر من المكاسب السياسية ... ؛ وتشحن التركمان ضد الاكراد وتفعل العكس ايضا , وتدفع هذه الجهة او ذلك الحزب للتحرش بهذه الفئة او ذلك التيار .... ؛ وهكذا دواليك ؛ وقد قام الإنجليز والامريكان بتنفيذ تلك الخطط الشيطانية بدهاء وخبث، وقد غرسوا صفة الدهاء والخبث في عملائهم حتى أصبحت أبرز صفاتهم. فهذا العميل يتقدم في المواجهة الاعلامية مع الجهة السياسية الفلانية , ويفتح ملفات كثيرة للتأثير على الرأي العام وتشويش المشهد العام .
واعلم ان من سابع المستحيلات ان تسمح بريطانيا او الولايات المتحدة الامريكية للشيعة بالحكم المطلق والقيادة المركزية للعراق كما كانت تفعل مع الحكومات العميلة الهجينة البائدة , ولا تسمح لهم بالانفراد بالسلطة أو الاستيلاء على المناصب الحساسة في الحكم لوحدهم ... وذلك لإضعافهم وعرقلة مشاريعهم وتعطيل قواهم ونهضتهم المرتقبة ؛ فالإنجليز يرون الشيعي ثوراً هائجاً ولا يمكن ذبحه إلا بعد إثخانه بالجروح ؛ كما ينتهج الانكليز والامريكان سياسة إحراق ورقة الشيعة وإظهارهم على غير حقيقتهم وجوهرهم ؛ والادعاء بأنهم لا يستطيعون إدارة شؤون الحكم وأن مكانهم الصحيح بأن يعودوا إلى المنافي والسجون والاهوار والتهميش والتغييب والاقصاء ... ؛ وذلك من خلال الايعاز الى عملاءهم من المحسوبين على الاغلبية العراقية الاصيلة بإجراء المقابلات الاعلامية الصبيانية واتخاذ القرارات الادارية والاقتصادية والسياسية الخاطئة وتوسيع دائرة الاعتقالات التعسفية واحتجاز المواطنين لأدنى الاسباب التافهة من خلال سن قوانين ظالمة او اجتهادات شخصية , وقمع المظاهرات الوطنية السلمية والمطلبية الحقة والعمل بالمحسوبيات ونهب المال العام والسطو على بعض الممتلكات الخاصة والعامة ... وهلم جرا ؛ كي تكتمل الصورة المظلمة عن الشيعة امام الراي العام الدولي والعربي كما فعلوا مع الانظمة الملكية والجمهورية السابقة ؛ ولن تجد لسياساتهم تبديلا .
وليس مستغرباً أن تتصارع أمريكا وبريطانيا وحلفاءهما مع القوى الدولية الاخرى في بلاد الرافدين فتسفك الدماء وتنهب الثروات وتسرق الخيرات وتعطل الحياة وتوقف عجلة التنمية وتعيث فيها فساداً وخرابا ودمارا ما دامت الدماء ليست دماءهم والثروات ليست ثرواتهم والبلاد ليست بلادهم ؛ إنما العجيب أن يكون لهم أدوات وعملاء من أهل العراق أصبحوا أكثر أجراماً وعداءً للعراق والامة والاغلبية العراقية ، ولذلك فإن المخرج من المأزق العراقي المستمر منذ عام 1920 هو باجتثاث هؤلاء العملاء والدخلاء وهدم عروشهم على رؤوسهم - من ابناء الفئة الهجينة ومرتزقة السنة والشيعة والكرد - واقتلاع قوى الخط المنكوس من العراق بالإضافة الى تهديم السفارة البريطانية وطرد البريطانيين وكل من له ارتباط مشبوه بالإنجليز ، والطريق لذلك من خلال الانشطة الجادة الثقافية والاعلامية والشعبية بل والدينية والسياسية والتي تهدف لمقارعة ومكافحة التسلط والتدخل والنفوذ البريطاني الخبيث ... .
..........................................................................................................
1- كيف دعمت بريطانيا انقلاب 8 شباط 1963 في العراق؟ / سلم علي .
https://telegram.me/buratha