كوثر العزاوي ||
كثير من الناس ممن نلتقيهم في اي محطة في ندوة هنا او مهرجانٍ هناك، أو في مناسبة ما على نحو التعارف المباشر أو غيره، وحينما يسترسل بالحديث تجده يتحدّث بعمقٍ تخضع له النفوس النقية التوّاقة لطهرِ الحقيقة، فيصوّر لك نفسه خلاصة من الخير ، وعيّنة من الإخلاص والتّقى، ومن التجرد ، ومن الحب ، ومن الترفّع عن الدنيا ، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر على الناس،! هذا الذي يُعجبك حديثهُ ويُبهركَ صِنفهُ حتى أنك لَتتوق إلى الغوص في مضمونهِ من دقة انتقاء المفردات والنصوص التي تلامس شغاف الروح وتأخذ بتلابيب العقل، ثمّ مايلبَثُ حتى "يُشهدُ اللهَ على ما في قلبه" حتى لايدع للمتأمّل مجالًا للشك، لإحراز الزيادة في التأثير والإيحاء وتوكيدًا للتجرد والاخلاص وإظهارًا للقرب وخشية الله!! وهو في الواقع العمليّ "ألدّ الخصام"!
وبينما انت تخوض التجربة معه بحبّ وثقة وتواصل سبيل المعروف والخدمة، فتصدَم بمزاحمة نفسه بالّلدَد والخصومة، فلا ظلّ للإيثار في حركته، ولا مساحة فيها للودّ والسماحة، ولا إشارة لذلك البيان المنمّق الجذّاب، بل ولا موضع للحبّ والخير ، ولا مكان فيها للتجمّل ونبذ الذات!، تُرى أنّى لهذا الصنف من البشر أن يعيش السعادة والاستقرار بوَجهين ولسانين؟!! وماذا لو عَلِم أنّ مثالَه مورد استهجانٍ وتحذير من قِبل الله "عزوجل" وقد قال فيه:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ..} البقرة ٢٠٤
ولعل هذا النموذج من عوام الناس الأكثر انتشارًا، ومثاله في كل عصر، الذي يناقض ظاهرُهُ باطنُه بتناقض أقوالهِ وأفعالهِ، ويتنافر مظهره ومُخبِرهُ، فهو الذي يُتقن الإيحاء والتمويه والمراوغة!
وفي تكملة الآية بيانًا لنتاجِ حركته في الحياة، وتجنّبًا للإطالة اعرضتُ عن التفصيل والانتقال إلى مايقابل هذا النموذج في القرآن.
فلو استَقصَينا المورد القرآني الآتي بعد السابق قليلًا لرأينا النموذج الآخر الأرقى الذي يدعونا إلى التأمّل وسَبر غور الجوهر وماينطوي عليه من مفاهيمَ عالية المضامين فيما ذُكِرَ من قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللِه وَاللهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ}البقرة ٢٠٧
ولعل هذه الآية باعتبارها واحدة من أكبر فضائل الامام عليّ"عليه السلام" التي شهدت له بالفداء والبذل والايثار! ومقابَلَتها مع قوله تعالى:
{ومِنَ النّاس مَن يُعجِبكَ قولُه..} إلى آخر الآية، يفيد أنّ الوَصف مقابل الوَصف، أي كما أن المراد من قوله: ومن الناس من يعجبك..، بيان انّ هناك رجل مُعتزًّا بإثمهِ معجَبًا بنفسهِ متظاهِرًا بالإصلاح مُضمِرًا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين والانسانية الّا الفساد والهلاك كما أثبتَت أعماله وحركته بالتجربة، كذلك المراد من قوله: {ومِنَ الناس مَن يَشري نَفسهُ..} إلى آخر الآية..إنما هو بيان أن هناك رجل آخر باعَ نفسَه لله سبحانه، ولا يريد الّا ما اراده الله "عزوجل" لا هوىً له في نفسه ولا اعتزاز له الّا بربّهِ ولا ابتغاء له الّا لمرضاة خالقهِ تعالى، فيُصلح به أمرَ الدين والدنيا، ويحيى به الحقّ، ويطيبُ به عيش الانسانية وتطيبُ باتّباعهِ نفوسٌ وترقى معه عقول!
وبذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر أعني قوله تعالى: "والله رؤوف بالعباد"بما قبله، فإنّ وجود إنسان بهذه الصفة إنما هي رأفة الله تعالى بعبادِه، وماأحوج المرحلة لذلك، إذ لولا رجالْ هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجالٍ آخرين صفتهم ما ذُكر من النفاق والإفساد لانهدمت أركان الدّين ولم تستقر من بناء الصلاح والرشاد لَبِنة على لَبِنة، لكن الله سبحانه لا يزال يُزهقُ ذاك الباطل بهذا الحق، ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه وعطاءَهم غير المنقطع.
فماهي الدروس المستوحاة من النموذَجَين في مقامِ العمل؟!-
١-أن نتعلّم كيف ولِمَن نمنح الثقة والتأييد والدعم، وذلك من خلال المواقف لا من خلال الكلمات والمظاهر، لأنَّ الكلمات قد تخدع، والمظاهر قد تغش، ولكن المواقف التي تتحرّك من خلال التجربة المريرة الصعبة لا تنطلق إلاَّ من قاعدة الحقّ والإخلاص.
٢ـ أن نشخّص هذين النموذَجَين في حركة الواقع دون الخلط والاشتباه بينهما من خلال الوعي والبصيرة، فنواجه الأول بالرفض ولانتولّاه مهما بلغَ مقامهُ لما بلغ من بغي وفساد وطغيان.
٣- متابعة النموذج الثاني الرساليّ بالتأييد والدعم والرعاية من أجل تقويته وتثبيته وتشجيع الآخرين على الاقتداء به في كلّ مواقفه ومنطلقاته، لأنها تمثّل القيم والمبادئ التي تتحرّك في الساحة وفق الخير والصلاح والمحبة والإنسانية.
٢٦-شعبان١٤٤٤هج
١٩-آذار٢٠٢٣م
ــــــــــ
https://telegram.me/buratha