الشيخ محمد الربيعي ||
اعظم الله اجركم بذكرى وفاة ام المؤمنين السيدة خديجة عليها السلام
بدأ دور السيدة خديجة الرسالي منذ كان رسول الله (ص) يذهب إلى غار حراء، ليخلو هناك إلى نفسه متفكراً متأملاً ومتعبداً.. بعيداً من صخب مكة وضوضائها ورجالاتها.. فقد كانت السيدة خديجة(ع) تؤمّن له كل سبل الرعاية لذلك.. فكانت تجهد نفسها وهي تقطع المسافات، حيث تذكر السيرة أنها كانت تقطع مسافة خمسة كلم مشياً على الأقدام للوصول إلى الجبل، وتصعد إلى جبل حراء العالي والموحش لتوصل إليه الطعام والشراب، ولتعينه لا على أمور دنياه، بل على ما يتعلق بعلاقته بربه، وكثيراً ما كانت تشاركه في رحلة تأمله وتفكره..
ويوم عاد رسول الله(ص) من الغار بعد نزول الوحي عليه لأول مرة.. وقد جاء يومها مثقلاً بأعباء المسؤولية التي حمّله الله إياها، وقفت السيدة خديجة معه تؤازره، لا لكونها زوجته، والزوجة تكون دائماً مع زوجها، بل لأنها كانت تعرفه جيداً، تعرف منطلقاته وصدقه وهي واثقة أن ما يقوله حق..
وهذا ما عبرت عنه عندما قالت له يوم نزلت عليه الآيات: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}.. قم يا رسول الله ونفذ أمر ربك.. فوالله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
وسارعت مع علي(ع) لإعلان إسلامهما، وشهدا معاً أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله..
وقد عاشت السيدة خديجة مع رسول الله أشدّ المراحل صعوبةً، حين استنفرت قريش كلّ قدراتها وإمكاناتها لمواجهة رسول الله(ص)، فكان يدعوهم إلى رسالته.. فيجابه بالتصفيق والتصفير وبالسب والشتم.. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان يصل إلى الإيذاء الجسدي..
فقد شكلت بيتاً يمتلئ عاطفة وحباً ورعاية وحضناً دافئاً ينسيه كل التعب والإيذاء والمعاناة.. وشاركته في مسؤولياته، فراحت تدعو إلى ما كان يدعو إليه، مستفيدة من موقعها في مكة، وبذلت في ذلك مالها.. وتحملت مع بناتها زينب ورقية وأم كلثوم أذى قريش، حين قررت قريش الضغط على رسول الله(ص) من خلالهن، فجاءت إلى أزواجهن، وكن قد تزوجن، لتقول لهم: "لقد فرغتم محمداً من همه، وأخذتم عليه بناته، فردوهن عليه لتشغلوه بهن"، فطلقت رقية وأم كلثوم من زوجيهما، فيما رفض زوج زينب طلاقها..
ولم يقف صبر خديجة عند هذا، بل تجلى صبرها على ما أصابها بوفاة ولدها الأكبر وهو صغير، وبعد ذلك، في ولدها عبد الله الملقب بالطيب.. وهنا نذكر ما قاله رسول الله(ص) لها يوم توفي القاسم معزياً، وهو عزاء لكل أم تفقد ولداً صغيراً: "يا خديجة، أما ترضين إذا كان يوم القيامة، أن تجيئي إلى باب الجنّة وهو قائم، فيأخذ بيدك، فيدخلك الجنّة وينزلك أفضلها، وذلك لكل مؤمن، إنّ الله عزّ وجلّ أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثم يعذّبه بعدها أبداً".
وتجلى صبر خديجة وثباتها في سنوات الحصار الذي تعرض له بنو هاشم في شعاب مكة، حين حوصر هو والمسلمون من بني هاشم بأمر من قريش، وكان قرارهم في ذلك عدم بيعهم والشراء والتزوج منهم.. إذ عانت خديجة مع من عانوا، وتعذبت مع من تعذبوا، وبذلت هناك كل ما كان بقي لديها من مال لتشتري الطعام بأضعاف مضاعفة لكسر هذا الحصار، حتى لم يعد عندها شيء منه.. وقد قال حينها رسول الله(ص): "ما نفعني مال قطّ مثل ما نفعني مال خديجة"..
معاناة حتّى الرّمق الأخير
وكان وقع الحصار عليها كبيراً، حيث اعتلت صحتها بسببه، لتنتقل إلى رحاب ربها في مثل هذا اليوم في العاشر من شهر رمضان، وفي العام العاشر للبعثة الذي سماه رسول الله عام الحزن حزناً عليها ووفاءً لها.
لقد جسدت السيِّدة خديجة الصورة المشرقة عن المرأة في الإسلام، وقدمت نفسها أنموذجاً للمرأة التي يريدها الإسلام، فهي ليست المغلوبة على أمرها، ولا الهامشيَّة الباحثة عن دورٍ خلْفَ دور الرّجل، بل شريكة له. لذا عندما نتحدث عن الأسس التي ساهمت في رفع قواعد الإسلام الأولى، نتحدث عن قيادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومال خديجة وثباتها، ونتحدث عن بطولات علي(ع)..
كما وقدمت صورة لزواج مميز خالف كلّ النمط التقليدي الذي يرى في الزّواج مجرّد رغبة وتلبية حاجة، فيما هدف الزّواج أبعد من ذلك، هو بناء أسرة صالحة. فهي سعت إلى الإنسان الذي يملك العناصر التي تؤهله ليكون زوجاً صالحاً، وأباً قدوة، وأن يقوم بدوره في أسرته، لا الذي يوازيها مالاً أو شأناً.
وقدمت درساً في الصبر على كلّ الظروف الصعبة التي عاشتها مع رسول الله(ص)، لم تتأفف في ذلك ولم تتضجر، وهي التي كان يمكن لها أن تعيش بما تملك من مال وجاه حياة رغيدة بعيدة عن كل هذا الجو، فعاشت شظف العيش وبذلت مالها لله ولنصرة دينه.
أيها الأحبة: لقد ارتأت المشيئة الإلهية أن يكون من نسل خديجة النسل الطاهر الذي تمثل بالزهراء(ع) وبنيها ممن أذهب الله عنهم الرجس أهل البيت وطهرهم تطهيراً..
وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق(ع) عندما قال: "إن الله جعل السيّدة خديجة وعاءً لأنوار الإمامة"..
ما أحوجنا ونحن نستعيد ذكرى السيدة خديجة، إلى خديجات كثر أمثالها من الرّجال والنساء، الذي ينفقون أموالهم في سبيل الله، ويصبرون من أجل الرسالة، ويسكبون الإيمان والفرح داخل بيوتهم سكناً، ويبلغون دعوة الله، وبذلك يستحقون ما استحقت من الوسام من الله، عندما نزل جبريل على رسول الله ليبشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
فالسلام عليها يوم ولدت، ويوم بذلت وقدّمت من أجل الله ورسوله، ويوم تبعث حية في البيت الذي وعدها الله.
اللهم احفظ الاسلام واهله
اللهم احفظ العراق واهله
ـــــــ
https://telegram.me/buratha