سعد صاحب الوائلي ||
فرنسا التي كانت من أوائل البلدان التي سحقها هتلر وأحالها الى ركام ودمرها تدميراً كاملاً في حربه، حتى دخول أمريكا الحرب، إذ قَدِمَتْ جيوشها إنطلاقاً من سواحل النورماندي الفرنسية زاحفة بكتائبها في مواجهة شرسة مع أعتى الجيوش والوحدات الألمانية، لتفلح بنهاية المطاف في تحرير الاراضي الفرنسية، بعدما سقطت لاميركا بتلك المواجهة أعدادٌ مهولةٌ من الضحايا، لترفل فرنسا بالتحرير ولتكون فيما بعد دولة عظمى تضاهي بريطانيا.
فرنسا هذه، والتي كانت بالأمس القريب خاضعة لأميركا بقضها وقضيضها حالها كحال معظم بلدان القارة العجوز أوروبا، ولاسيما في عهد أكثر الرؤساء الفرنسيين خضوعاً وتذللاً لأميركا ألا وهو (جون ماكرون)، باتت اليوم تحمل بوق التمرد، والخلاص من السطوة والقبضة الاميركية، حتى سمعنا بالامس رئيسها ماكرون وهو يدعو بعد عودته من الصين مع المبعوثة الاوروبية أورسولا فون دير" أن على أوروبا أن تقاوم الضغوط الاميركية لجعلها تابعة لها "، كما ويدعوها للتخلي عن الاعتماد على الدولار. فماذا حدى مما بدى، لماذا هذا الانقلاب السريع في المواقف الاوروبية لاسيما في الاقطاب المبرزة من هذه القارة كفرنسا وألمانيا.
نعم ألمانيا، التي كانت واشنطن من أوائل مَنْ أدلى بدلوه بعد هزيمة الرايخ في جعلها جنة الأرض وأول بلدان العالم في الصناعات والتقانات المتقدمة والإعمار وفي النمو الزراعي، حتى بلغ دخل الفرد الالماني أعلى دخلٍ في العالم، ألمانيا هذه التي تحكم علاقاتها مع اميركا بإتفاقيات دولية ناجزة طيلة عقود خلت، أخذت نزعة التمرد على الهيمنة الاميركية تدب فيها، حتى تعالت الاصوات في البوندستاغ بحتمية رحيل القوات الاميركية من الاراضي الالمانية، وان على برلين ان تنفصل عن علاقة التبعية الشديدة لأميركا، واصفة واشنطن بان سياساتها الخارجية تتسم بإنتهاكات القانون الدولي.
وفي سياقٍ ذي صلة، السعودية التي كانت أشبه بمحمية أميركية منذ قرابة سبعين عاماً، ومستوى علاقات التوافق والتعاون فيما بينهما على اشدها لعقود طوال، تصاعدت حدة التوتر في العلاقات بينهما، فالزمن ليس ببعيد حين أطلق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان سيلاً من التصريحات التي حملت البيت الابيض الاميركي على التصريح "بأنه امام مرحلة (إعادة ضبط) العلاقات الاميركية مع السعودية"، ما اسفر عن مزيدٍ من التغير في اتجاهات بوصلة العلاقات بين الرياض وواشنطن وبشكل كبير، مع اقترابٍ شديدٍ للرياض صوب بكين. حتى اسفرت تلك الأحدث بتغييرات في مواقف بلدان خليجية أخرى، حيث أدلت بدلوها وخفّضت انتاجها النفطي بخلاف الارادة الاميركية في سابقة هي الاولى من نوعها في تاريخ هذه البلدان.
والى جانب باريس وبرلين والرياض وعواصم خليجية، كانت نيودلهي هي الاخرى سبّاقةٍ في التخلي عن اعتمادها على التعامل بالدولار، فيما باتت مصر بلد التصدير الأول للحبوب الروسية والتعامل بالجنيه المصري في قبالة الروبل الروسي والتخلي عن التعامل بالدولار في هذا المضمار في سابقةٍ غير معهودة.
وأمام إرهاصات ولادة نظام عالمي جديد، وعلائم لإنهيار الدولار في الاسواق العالمية، وتوالي إمارات أفول القطبية الاميركية التي باتت بوادرها وبشائرها تلوح في الافق وبوضوح بَيّن، يعلو هنا تساؤلٌ كبير، لماذا يبقى العراق الدولة الوحيدة (المحتلة) والخاضعة لأمريكا، على الرغم من أنَّ هذا البلد عانى الامرّين وقاسى ما قاساه من ويلاتٍ ومآسٍ وعاش منتهىى الظلم والتقتيل والبطش من الجيوش الاميركية في حروب واشنطن المتتالية، فضلا عن ويلات وبطش صنائع اميركا المتعددة كـ (القاعدة الارهابية) و(عصابات داعش الدموية)، وآخيراً (قطعان سفارتها) وما احدثوه من تخريب متعمد وتقتيلٍ وتعطيل للبلاد لقرابة عامين وأكثر. هذا التساؤل يزداد حدةً مع تفاقم وتيرة التغيرات الكبرى التي تعيشها المنطقة والعالم، غير أننا مازلنا نرى بغداد متشبثة بوتيرة علاقاتها الخانعة الخاضعة المستجيبة لواشنطن، على الرغم من ان الحكومة العراقية الحالية محسوبة على جهات وطنية مازالت توصف - وللأمس القريب - بأنها مطالبة بشدة برحيل القوات الاميركية.
لا نعرف أسرار بقاء هذا الخضوع وهذا الانقياد للعم سام الذي اصبح كهلاً ضعيفاً خاوياً سياسياً، وهو على حافة فقدانه لسطوة دولاره في الأفاق، وعلائم أفول نجمه تلوح كرابعة الشمس. هذا التساؤل الكبير نضعه فوق طاولات الرئاسات الثلاث، عَلَّ هناك من يسمع فيجيب.
ــــــــ
https://telegram.me/buratha