سعد صاحب الوائلي
يتعجب بعض الحكماء، والعلماء، وأولو الالباب، كيف تسنى للقوى الإستكبارية عبر مليارات المحتويات الهابطة والسطحية والتافهة المُقَدَّمَةِ عَبرَ أساطيل إعلامها المرئي والإلكتروني والمسموع وسواه، كيف تسنى لها أنْ تستغفلَ شرائحَ مجتمعيةً لا حَصرَ لها، وفي شتى الأمم، وكيف تسنى لها أن تقودَ وتوجِّهَ وتحرّكَ أجيالاً وأجيالَ وتقنِعُهُم بما تقدمه عبر تلك المحتويات الهابطة السطحية التافهة دون أن يتحرك عندهم واعزُ حكمةٍ، أو ناهضُ حَقٍ، او بادرةُ وعيٍ، او حجمُ إداركٍ يتولى مهامَ إحداثِ هَزّةِ وعيٍ، أو آوبةِ تفكيرٍ، أو رَجعةِ بَصَرٍ بكَرَّةٍ أو كَرَّتَيْنِ ليَنقَلِبْ إِلَيْهم بَصَرُ إدراكِهم ثانيةً لِيَعُوا خَواء ما يُقَدَّمُ لهم من تلك المحتويات الهابطة السطحية التافهة من قبل كارتلات الاستكبار؟ تساؤلٌ لطالما أقضَّ مضاجع الحكماء والمربّين والعلماء والواعظين، ولكن دون أن يفلحوا في إيجاد إجاباتٍ شافيةٍ له.
ولعل في معرض آياتِ القرآن تكمن أوجه إجاباتٍ لبعض تلك التساؤلات، لعل في مقدمتها بسورة الزخرف حيث يقول الباري عزوجل : ( فَاستخف قَومَهُ فَأَطَاعُوه، إنَّهُم كانُوا قَوماً فَاسِقِين ).
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل عن هذه الاية :( إن طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الاستمرار في تحقيق أهدافها وأنانياتها، هي الإبقاء على الناس في مستوىً متردٍ من الفكر والثقافة والوعي، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يَعُونَ ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل، فتجعلهم غرقى في حالة من الغفلة عن الوقائع والأحداث والحقائق، وتَنصِبُ لهم قِيَمَاً وموازينَ كاذبةً مُنحَطّةً بدلاً من الموازين الحقيقية، كما تُمارس عملية غسل دماغ تام متواصل لهذه الشعوب، وذلك لأن يقظتها ووعيها، وتنامي رشدها الفكري يشكل أعظم خطرٍ على الحكومات، ويعتبر أكبر عدو للحكومات المستبدة، فهذا الوعي بمثابة مارد يجب أن تحاربه بكل ما أوتيت من قوة.
إن هذا الأسلوب الفرعوني - أي استخفاف العقول - حاكم على كل المجتمعات الفاسدة في عصرنا الحاضر، بكل قوة واستحكام، وإذا كان تحت تصرف فرعون وسائل محدودة توصله إلى نيل هدفه، فإن طواغيت اليوم يستخفون عقول الشعوب بواسطة وسائل الاتصال الجماعية، الصحف والمطبوعات، شبكات الراديو والتلفزيون، أنواع الأفلام، بل وحتى الرياضة في قالب الانحراف، وابتداع أنواع الأساليب المضحكة المستهجنة، لتغرق هذه الشعوب في بحر الغفلة، فيطيعوهم ويستسلموا لهم).
ولعل من يمهد الأرضية لهذا (الإستخفاف) من (الطغاة) و(الفراعنة) وأمثالهم، هو حجم الفساد المستشري في إوساط مجتمعاتنا اليوم، بكل ما في كلمة (فساد) من تشقيقات وتفرعاتٍ وأنواع ومضامين، فمعيار بقاء الضلالة في المجتمعات هي في قوله تعالى بنفس سورة الزخرف (إنَّهُمْ كَانُوا قَومَاً فَاسِقِين). فبقاء إستشراء الفسق والفساد دون مكافحة، ودون نهي عن المنكر، ودون أمرٍ بمعروف، ودون أن ترعوي المجتمعات عن هذا الفسق والفساد، وبقائها على حجم التمرد على طاعة الله تعالى، ودون أيّ تحكيم للعقول، او تغليبٍ للحكمة، فلا مناص أن تكون الأرضية مؤاتيةً لبقاء حالة (الاستخفاف) بهم، وبقاء حالة رضوخهم كفرائس وطرائد سهلة طيعة لحجوم الدعايات المضللة والمحتويات الهابطة والسطحية والخزعبلات وبقاء حالة الإذعان لها والانقياد لمضامينها وإصغائهم لتوجيهاتها، وبالتالي فإن هذه الشرائح المجتمعية غير معذورة ما دامت راضخة خانعة مسلوبة العقول والألباب يتبعون كل ناعق كمن أصابه عمى، مع تعاظم الخشية من أن يكونوا مصداقاً لقوله تعالى (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين)، في إشارة لشمولهم بالعقوبة الإلهية.
من هنا، فإن مجتمعنا اليوم، مدعو بالمقام الأول لجعل محاربة الفسق والفساد -كل أوجه الفساد وتشقيقاته - وتجفيف منابعه في اوساطه كهدفٍ أول، وغاية متقدمة يسعى لتحقيقها، وإلاّ، فبغير ذلك، سيبقى المجتمع مرتهناً رازحاً تحت مظلة التجهيل والتضليل، وغارقاً في مستنقعات التفاهة والتسطيح ما يطيل من عمر رزوحه تحت نير الطغاة والمستكبرين.
https://telegram.me/buratha